الموصل / خالد فرج الله
بين ثنايا تراب نينوى العريق، وتحت أنقاض ما شهدته الموصل، تعود إلى السطح رموز حضارة آشور المجنّحة، التي ظلت لقرون حارسة لأبواب القصور والمعابد. خلف جامع النبي يونس، حيث تتلاقى قداسة المكان مع إرث التاريخ. كشفت أعمال التنقيب الحديثة عن ثيران مجنحة جديدة، أيقونات الفن والسلطة في الإمبراطورية الآشورية. هذه الكائنات الحجرية الضخمة، بنظراتها الثابتة وأجنحتها المهيبة، ليست مجرد منحوتات، بل رسائل حضارية تحكي عن عظمة ملوك آشور وقدرتهم على الجمع بين القوة الروحية والهيبة السياسية.
اليوم، يقف الخبراء وعلماء الآثار أمام هذا الاكتشاف الباهر، متبادلين الرؤى حول أهمية هذه القطع النادرة في إعادة كتابة تاريخ الموصل وصون هويتها الثقافية، مؤكّدين أن استظهار هذه الكنوز لا يمثل عودة حجارة صامتة فحسب، بل عودة لروح مدينة حاولت أن تُمحى من ذاكرة الزمن. اكتشاف استثنائي للتعليق على هذا الاكتشاف الجديد، يقول رويد الليلة، مدير مفتشية آثار وتراث نينوى إن الاكتشافات الأثرية الأخيرة في جامع النبي يونس، المعروف أيضًا بتل التوبة، الذي كان يُعرف من قبل الآثاريين باسم قصر الملك أسرحدون، تمثل حدثًا تاريخيًا مهمًا. وأعلنت البعثة العراقية – الألمانية، عن العثور على أحد الثيران المجنحة التي كانت تزين قاعة العرش في قصر الملك أسرحدون، واضاف (الليلة): "الثور مكوّن من مكعبات حجرية متناسقة، تُعرف بالقطع الحجرية، أو ما يسمى بـ(الميكانو)، وهو أسلوب نادر في فنون النحت الآشوري. ولحسن الحظ، نجا هذا الاكتشاف من التدمير على يد عصابات داعش الإرهابية، إذ عثر عليه بعد تحرير المنطقة، ما سمح بالحفاظ عليه بحالته الأصلية." مبيناً: "إن الدراسات الأولية تشير إلى أن هذا الثور قد يكون مكتمل الأجزاء تقريبًا، إذ عثر على العديد من الحجارة المتساقطة التي تشكل الأجزاء العلوية، حيث يُقدّر ارتفاعه بنحو أربعة أمتار.
وأن الأيام القليلة المقبلة ستُستكمل عمليات استظهاره وصيانته لإعادته إلى شكله الأصلي كما كان في الفترة الآشورية." الآثار الآشورية (الليلة) أوضح أن"الفريق الأثري العراقي–الألماني يعمل حاليًا على تهيئة التصاميم النهائية لإعادة توظيف الموقع ليصبح متحفًا مفتوحًا لأول مرة في العراق. هذا المشروع سيتيح للزوار مشاهدة التنقيبات مباشرة في موقع قاعة العرش، مع إمكانية زيارة جامع النبي يونس في الوقت نفسه. ولأول مرة، ستكون هناك حلقة وصل حقيقية بين الآثار الآشورية والتراث الإسلامي، بما يعكس ارتباط النبي يونس بالفترة الآشورية ومكانته الدينية لدى الديانات السماوية الثلاث. أهمية تاريخية المهندس فارس عبد الستار، عضو هيئة خبراء التراث في العالم العربي ومستشار تراث الموصل، تحدث عن هذا الاكتشاف قائلًا: "تُعدّ هذه الثيران، المكتشفة في موقع قصر أسرحدون، بالغة الأهمية، إذ إن الثور الذي جرى استظهاره يمثل واجهة القصر الذي يعود لأحد أبرز ملوك الإمبراطورية الآشورية. أسرحدون هو ابن الملك سنحاريب ووالد الملك آشور بانيبال، ما يجعله حلقة محورية في السلسلة الذهبية للملوك الآشوريين الذين حكموا نينوى في أوج مجدها (681 ق.م وما بعده).
كان أسرحدون من أعظم ملوك آشور، فقد امتدت سيطرته إلى مصر ووصل نفوذه إلى مدينة منفيس، محققًا إنجازات عسكرية وحضارية جعلته أحد أبرز بناة الإمبراطورية." يضيف عبد الستار: "عندما جعل الملك سنحاريب نينوى عاصمة الإمبراطورية، أقام قصره في منطقة تل قوينجق، لكن ابنه أسرحدون بنى قصره في الجهة المقابلة في تل التوبة، موقع جامع النبي يونس حاليًا.
هذا القصر يُعدّ المعلم الوحيد في المنطقة، وقد بدأت أعمال التنقيب فيه منذ ثمانينيات القرن الماضي، واستمرت إلى أن وصلت اليوم إلى هذا الاكتشاف الكبير بالتعاون بين البعثة العراقية–الألمانية." وأكد عبد الستار ضرورة توظيف الاكتشاف في أكثر من اتجاه: 1 - التوثيق التاريخي: لما يحمله الموقع من شواهد مهمة على الحضارة الآشورية في ذروة قوتها، بالقرب من أحد أبرز المعالم الإسلامية، جامع النبي يونس، ما يتيح فرصة فريدة لتوثيق تلاقي حضارتين عريقتين. 2 - التنشيط السياحي: إنشاء متحف خاص لقصر أسرحدون يتيح للزوار مشاهدة هذا الإرث إلى جانب جامع النبي يونس. 3 - التوظيف الاقتصادي والمجتمعي: تشغيل الكوادر المحلية في الموقع، وتنظيم برامج تعليمية وزيارات ميدانية لتعريف المجتمع بأهمية الاكتشافات. 4 - التنمية الثقافية والتراثية: إعادة تأهيل الجامع وبناء شراكات مع اليونسكو وهيئات التراث العالمية لاستمرار عمليات البحث والكشف عن مزيد من الكنوز الآثرية. تعاون علمي دولي يقول الخبير الآثاري خير الدين أحمد: "بعد عمليات التحرير، نزلنا إلى الأنفاق الأثرية، وجرى توقيع اتفاقية مع جامعة هايدلبرغ الألمانية لإجراء أعمال التنقيبات.
شملت الأعمال تدعيم القطع الآثرية في القاعات الملكية، ومن ضمنها الثيران المجنحة. كما نجح الفريق الألماني في الحفاظ على ثيران أخرى واكتشاف آثار هائلة في قصر أسرحدون، حيث كانت هناك تنقيبات سابقة جرى الكشف عنها ثم تغطيتها، ليُعاد فتحها الآن لأغراض الصيانة تمهيدًا لعرضها أمام الزائرين مستقبلاً." يضيف خير الدين: "يقع قصر أسرحدون خلف جامع النبي يونس مباشرة، وهذا دليل واضح على تواصل الحضارات في محافظة نينوى، وفي العراق عمومًا. فالزائر لهذا المكان، سواء للسياحة أو الزيارات العلمية، يلمس تسلسلًا زمنيًا فريدًا يمتد من الفترة الآشورية وصولًاً إلى الفترة الإسلامية." ويؤكد الخبير الآثاري أن تل التوبة وتل النبي يونس أصبحا اليوم وجهة مهمة تجمع بين الزيارتين الدينية والأثرية، حيث يقصد العديد من السياح والمهتمين هذه المواقع لاكتشاف الترابط الحضاري بين أروقة القصور الملكية الآشورية ومكانة النبي يونس في الديانات السماوية.
