100%
رفاه حسن
في أحد الأيام، زارتني إحدى الصديقات، وجلسنا نتحدث ونشرب القهوة، لكنّي لاحظت أنها لم تكن تنصت لحديثي، ولم تكن تستمتع بفنجان القهوة أمامها، بل كانت تحدّق في هاتفها وتتابع بانفعال التعليقات على صورة نشرتها قبل دقائق.
وبينما كنت أحاول لفت انتباهها، أدركت أن (اللحظة) التي نعيشها معًا صارت مجرد خلفية لصورة تُعرض على مئات الغرباء خلف الشاشات.
عندها خطر لي سؤال ظل يراودني منذ سنوات: هل يمكننا أن نعيش بلا مواقع التواصل الاجتماعي؟
من الصعب أن ننكر أن هذه المنصات غيّرت حياتنا بشكل جذري.
فهي نافذة للمعرفة، وساحة للتواصل، وأداة للتسويق والعمل.
لكن الوجه الآخر أكثر تعقيدًا: إنها استنزاف مستمر للوقت، ومصدر للتوتر، وأحيانًا مرآة مشوهة لذواتنا.
منافسة خفية
لنبدأ من الجانب النفسي؛ كثير من الدراسات تؤكد أن الاستخدام المفرط لوسائل التواصل يرفع مستويات القلق والاكتئاب.
السبب يعود إلى ما يسميه علماء النفس (المقارنة الاجتماعية)، حين نرى باستمرار أجمل ما لدى الآخرين: السفر، والنجاح، واللحظات المبهجة، بينما نخفي -نحن- تفاصيل التعب والفشل.
هذه المقارنات غير العادلة تزرع شعورًا بالنقص، وتحوّل المنصة من فضاء للتواصل إلى ساحة للمنافسة الخفية.
ثم أن هناك الجانب السلوكي؛ يكفي أن نلاحظ كيف أصبحنا أسرى الإشعارات.
رنين هاتف صغير كفيل بقطع تركيزنا، مهما كانت المهمة التي نتولاها. والنتيجة؟ تراجع في الإنتاجية وصعوبة في إتمام الأعمال بتركيز كامل.
بعض التقديرات تشير إلى أن التنقل المستمر بين التطبيقات والمحادثات يقلل من فاعلية العمل بنسبة قد تصل إلى الثلث.
هذه خسارة كبيرة يدفعها الفرد والمجتمع معًا.
عزلة متزايدة
أما على صعيد العلاقات الإنسانية، فالمفارقة مؤلمة؛ نحن اليوم أكثر اتصالًا رقميًا من أي وقت مضى، لكننا في الوقت نفسه نعاني عزلة متزايدة.
اللقاءات المباشرة أصبحت نادرة، والمحادثات الواقعية فقدت دفأها أمام رسائل سريعة أو رموز تعبيرية.
لقد صار من السهل أن نهنئ صديقًا بعيدًا بتعليق مقتضب، لكن من الصعب أن نزوره أو نخصص له وقتًا وجهًا لوجه.
ولعل أخطر ما تفعله هذه المنصات هو تأثيرها على الوقت.
لحظة تصفح (عابرة) قبل النوم قد تتحول إلى ساعة كاملة من التمرير بين الصور والفيديوهات.
ومع مرور الأيام، نجد أننا خسرنا عشرات الساعات في شهر واحد، كان يمكن أن نستثمرها في نشاطات أكثر قيمة: قراءة كتاب، ممارسة رياضة، أو ببساطة الحصول على قسط كافٍ من النوم.
اعتدال ووعي
لكن، مع كل هذه السلبيات، يصعب الادعاء بأنّ الحل يكمن في الانقطاع التام.
الحقيقة أن مواقع التواصل لم تعد مجرد ترف، بل أصبحت جزءًا من بنية الحياة الحديثة.
كثير من الوظائف اليوم تعتمد عليها في التسويق والتعليم والتأثير المجتمعي.
الانسحاب الكامل قد يعني خسارة فرص مهنية وشخصية مهمة.
من هنا، فإن السؤال الحقيقي ليس: "هل يمكننا العيش بدون مواقع التواصل الاجتماعي؟" بل: "كيف يمكننا أن نعيش معها دون أن نفقد أنفسنا؟"
الإجابة تكمن في الاعتدال والوعي.
الاعتدال يعني أن نحدد (بصرامة) مساحات زمنية لاستخدام هذه المنصات، مثل نصف ساعة صباحًا وأخرى مساءً، بدلًا من التصفح المتقطع طوال اليوم.
يمكننا الاستعانة بتطبيقات تضبط الوقت المستهلك على كل منصة، أو حتى ضبط منبّه يذكرنا بوقت التوقف.
أما الوعي، فيبدأ من قرار بسيط: إيقاف الإشعارات غير الضرورية التي تستنزف انتباهنا بلا معنى، وتحول حياتنا إلى سلسلة لا تنتهي من المقاطعات.
سجن ناعم
إلى جانب ذلك، علينا أن نعيد ترتيب أولوياتنا: التفاعل الواقعي ينبغي أن يتقدّم دائمًا على الافتراضي.
محادثة قصيرة مع أحد أفراد العائلة، أو لقاء وجهًا لوجه مع صديق، يمنحنا دفئًا وصدقًا لا تعوّضه مئات الرسائل الرقمية.
بل يمكننا أن نتبنى عادات بديلة، كأن نستبدل نصف ساعة من التمرير العشوائي في الهاتف بقراءة فصل من كتاب، أو ممارسة رياضة بسيطة، أو حتى مجرد التأمل الصامت.
هذه الأنشطة لا تبني عقولنا وأجسادنا فحسب، بل تذكّرنا بأن الحياة أغنى بكثير مما تعرضه الخوارزميات.
والأهم أن نستوعب أن هذه المنصات هي أدوات فقط، وليست غايات بحد ذاتها.
دورها أن تخدم حياتنا، لا أن تستولي عليها.
هي وسائل للمعرفة والتواصل إذا أحسنَّا إدارتها، لكنها تتحول إلى سجن ناعم إذا فقدنا السيطرة عليها.
في النهاية، القصة التي بدأت بصديقة غارقة في هاتفها ليست استثناءً، بل صورة متكررة لحياتنا جميعًا.
نحن نعيش في عالم يفرض علينا الحضور الرقمي بدرجة أو بأخرى، لكن القرار النهائي يبقى بأيدينا: هل نسمح للشاشة أن تسرق لحظاتنا، أم نعيد التوازن، فنستخدمها بوعي ونحافظ على إنسانيتنا؟