100%
أربيل / خالد إبراهيم
في قمم جبال كردستان، حيث تمتزج رائحة (البطم) الجبلي بندى الصباح، تولد من صخر الأرض دموع لامعة تُعرف باسم (العلكة الكردية)، تلك القطع الصغيرة التي تختزن عبق الجبل وذاكرة الأجداد.
ليست مجرد مادة تُـمضغ، بل إرثٌ له طعم الطبيعة، وملمسُ الأصالة التي لم تذب، رغم كل ما تبدّل.
هبة ربانية
يبتسم عبد الرحمن سردار، أحد أقدم العاملين في استخراج العلكة بمنطقة سوران، يقول وهو يشير إلى شجرة القزوان أمامه:
"هذه الشجرة تُعرف علميًا باسم Pistacia eurycarpa، ونحن نسميها (القزوان). الله -سبحانه وتعالى- رزقها هذه المادة اللزجة التي تشفي وتعطر في الوقت نفسه.
نفتح جذع الشجرة بشق صغير في الصيف، عادة بين منتصف حزيران وأيلول، ونغطيه بالطين حتى لا تجف المادة، وبعد نحو أسبوعين نجمع الصمغ المتصلب."
يتابع حديثه بثقة العارف:
"هذه العلكة فيها أسرار كثيرة. التحاليل العلمية الحديثة بيّنت أن مكوناتها تحتوي على سكريات طبيعية، مثل الجلوكوز والجالاكتوز والأرابينوز، وفيها مركّبات طيّارة مثل الـ(ألفا-بينين)، التي تعطيها رائحتها الطيبة.
كل شيء فيها طبيعي 100%، بلا أية إضافات كيميائية."
ثم يضحك وهو يضيف:
"سابقًا، كان الناس يخلطونها مع العسل الجبلي لعلاج المعدة، واليوم تقول المختبرات نفس الشيء.
في جامعة صلاح الدين درسوا المادة ووجدوا أنها تقتل أنواعًا من البكتيريا والفطريات المسببة لأمراض المعدة.
حتى أطباء الأسنان صاروا ينصحون بها لأنها تقلل التهابات اللثة، حسب دراسة منشورة عام 2021."
رحلة الصبر
أما جومان كمال، الذي يعمل في معمل صغير لإنتاج العلكة، قرب ناحية شقلاوة، فيشرح التفاصيل التي لا يعرفها كثيرون:
"بعد جمع الصمغ، نغليه على النار بدرجات حرارة معينة، لأنه يحترق إذا كانت الحرارة أكثر من اللازم، وإذا قلت تبقى المادة صلبة وقاسية.
نغليه عادة لمدة 45 دقيقة بالماء النقي، ثم نبرده بسرعة. بعد التصفية يصير الصمغ علكة جاهزة، لا نضيف لها أي شيء.
بعضهم يضيف الشمع لتكبير الحجم، لكن هذا يخرب طعمها ويقلل فائدتها."
يضيف كمال بفخر:
"العلكة الأصلية تُباع اليوم بين 50 إلى 100 دولار للكيلوغرام الواحد، حسب نقاوتها ومكان استخراجها، ولاسيما من جبال راوندوز وسيدكان.
الإقبال كبير حتى من المحافظات الجنوبية، لأن الناس يحبون الشيء الطبيعي. كثير من الزبائن يقولون إنها تهدئ المعدة وتقلل الانتفاخ."
كمال يذكر شيئًا مثيرًا:
"الجميل أن ماء العلكة نفسه - الماء الذي نغليها فيه - نحتفظ به، لأن فيه زيوتًا طيارة مفيدة.
بعض الناس يشربون ملعقة صغيرة منه ممزوجة بالعسل لعلاج القولون العصبي أو خفقان القلب.
هذه وصفة قديمة، لكن دراسات جديدة تؤكد أن المادة فيها مضادات أكسدة قوية."
شجرة البركة
من جانبه، يقول كاوه كريم، الباحث في النباتات الطبية بجامعة صلاح الدين - أربيل:
"القزوان تُعتبر من أهم النباتات البرية في كردستان، وهي تنمو بين ارتفاع 1000 إلى 1700 متر فوق سطح البحر. للأسف، كثير من الأشجار تتعرض للقطع أو الحرائق، بالرغم من أن إنتاج كل شجرة لا يتعدى نصف كيلوغرام من الصمغ سنويًا."
ويضيف موضحًا الجانب العلمي:
"تحليلنا في المختبر أثبت أن العلكة تحتوي على مركّبات مضادة للبكتيريا، بل أظهرت قدرة على وقف نمو فطريات Aspergillus parasiticus بنسبة تتجاوز 90 % عند تركيز 125 ملغم/مل، وهذا رقم ممتاز بالمقارنة مع المضادات الصناعية."
تراث لا يذوب
يختم عبد الرحمن سردار كلامه قائلًاً
"سابقًا، كنا نمضغ العلكة في الطريق إلى الجبل، نعرفها من رائحتها.
اليوم صارت تُباع في المعارض، وحتى في الإنترنت، لكن تبقى رائحة الجبل فيها لم تتغيّر. هي تراثنا، مثل الأغنية الكردية، لا تذوب أبدًا."