ميسان/ صفاء ذياب لم تكن مدينة العمارة (350 كم جنوب شرقي بغداد) إلاّ بيئة سامية لخلق شعائر الله من الديانات كلها، فعلى الرغم من أنها بعيدة عن بغداد مئات الكيلومترات، إلا أنها رسمت شكل التعايش بأشكال مختلفة، حتى أنها لم تهمّش أية طائفة أو ديانة في تاريخها كله. مدينة الله في محلة صغيرة تتوسط مدينة العمارة، تجتمع الديانات السماوية، هنا كنيسة، وفي الزقاق المجاور كنيسة أخرى، وهناك على الطريق المقابل من الشارع معبد يهودي، وفي محلة مجاورة معبد (مندي) للصابئة، فضلًا عن مساجد للمسلمين، تتحلّق فوق هذه الديانات لتشكّل مجتمعة مدينة الله. ففي زقاق واحد تجلّت حكمة الله في قلب مدينة العمارة، الكنيسة في وسط المدينة ما زالت شامخة، وجرسها باسق كنخل ميسان، المسجد القديم ما زالت تدبّ فيه الحياة، محلة التوراة إرث مدني وتاريخي يعكس قيمة المدينة وتنوّع أطيافها المذهبية والعرقية، بيوت يغازل الخشب فيها طابوق الدهور العابقة، والحديد ينقش روعة التصميم، ألوان أخذ الزمن منها مأخذه. قال لي دليلي، الذي أخذني ليريني بيت طفولته: "هنا ولدت، لم نكن نعلم ما الذي يختلف في دياناتنا، فأنا مسلم، وصديقي مسيحي، وحبيبتي التي كنت أتمنى أن أتزوّجها حينما نكبر يهودية. عشنا سنوات طوال ندخل بيوت بعضنا بعضًا، ونأكل من صحن واحد." لم ينس هذا الدليل أنه كان يصلي في أماكن العبادة جميعًا، في الصباح في مسجد المحلة، الذي لم تبقَ منه سوى منارة تصدّعت على طولها، وفي الظهيرة كانت الكنيسة محطّة للقاء الأصدقاء وشرب الشاي، فضلًا عن الدعاء الذي لم يتوقف منذ تأسيسها حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي. من جانبه، أخذني الشاعر نصير الشيخ إلى بيت طفولته الواقع بالقرب من المعبد اليهودي وكنيسة أم الأحزان، في محلة التوراة. فعلى الرغم من أن بيته الأول لم يبقَ منه سوى حائط اصطبغ طابوقه بألوان عدة، إلا أنه يأتيه بين مدة وأخرى، مع وجود بسطات الباعة المتجولين الذي علَّقوا عليه ملابس الأطفال وبعض فساتين النساء الرخيصة الثمن، فضلًا عن الألعاب التي تباع بسعر لا يتجاوز الألف دينار. غير أن الشيخ لم يقطع صلته بأصدقائه القدامى، ولاسيما ابن قس الكنيسة (وائل) الذي أخذنا للقاء والده ليتحدّث لنا عن تاريخ كنيسة أم الأحزان. بقايا تاريخ في حديث خاص، يقول الأب جلال دانيال توما، ممثّل المسيحيين في محافظة ميسان، إنَّه لا يمكن أن نحدّد تاريخ المسيحيين في المحافظة، فالآثار تدل على أنهم استوطنوا هذه المدينة منذ آلاف السنين، لكن الشيء الملموس أننا وجدنا في هذه الكنيسة (أم الأحزان) التي افتتحت في العام 1880م كتبًا ومراسلات ووفيات، قبل موعد إعلان تأسيس الكنيسة بقرون طوال، فهذه الكنيسة رُمّمت أكثر من مرة، بعد انهيارها والإهمال الذي تتعرض له مع مرور الزمن. لكن من خلال جولتنا في كنيسة يلاحظ أنها لم ترمم فعلًا، بل أعيد إعمارها بعد أن فقدت هويتها وملامحها، فالحجر الجديد، الذي لا يمتّ إلى الكنائس العراقية القديمة بشيء، هو الذي يحتضن الطابوق القديم، فضلًا عن الشمعدانات الجديدة التي تباع في الأسواق الشعبية، والأبواب التي لم تُصنع بإتقان. يؤكّد توما أن هذه الكنيسة كانت مركزًا للمحافظات الجنوبية العراقية، فعلى الرغم من أن مدينة العمارة لا تعد الأكبر مساحة وسكانًا مقارنةً بمدينة البصرة، غير أنها كانت مركزًا حقيقيًا للمسيحيين الذين يؤمونها من مدن البصرة والناصرية وغيرها، فضلًا عن مسيحيي المدينة.
مشيرًا إلى أن هذه الكنيسة كانت تضم أكثر من 400 عائلة في مدينة العمارة وحدها قبل سبعينيات القرن الماضي، في حين أنها لا تضم الآن أكثر من 21 عائلة، وبعضها يسعى للرحيل أيضًا. طقوس خاصة كانت طقوس الكنيسة، بحسب الأب توما، تقام بشكل أسبوعي، كلّ يوم أحد، فضلًا عن بعض المناسبات التي تستمر لأيام، غير أن المفارقة، التي أدت إلى إيقاف الكثير من الشعائر والاحتفالات، هي تزامن مناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية، أكثر من مرة، مع مناسبات إسلامية، مثل شهر محرم وذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع)، احترامًا لمشاعر المسلمين. وفيما إذا كانت هناك أكثر من كنيسة في محلة التوراة، يقول توما إن هناك كنيستين، الأولى هي (أم الأحزان)، التي ما زالت تفتح أبوابها للمسيحيين والمسلمين على حدٍّ سواء، وكنيسة (مار يوسف) المغلقة منذ سنوات طوال، ما أدّى إلى سكن عدد من العائلات المسيحية فيها، لعدم إقامة الطقوس الدينية فيها. هذه الكنيسة (مار يوسف) للسريان الكاثوليك بنيت في العام 1940 على يد عائلة المرحوم حنَّا الشيخ، وقد نقلت قبور حنَّا الشيخ وزوجته والعائلة إلى داخل تلك الكنيسة، والكنيسة الآن مهملة وآيلة للسقوط. وعلى الرغم من محافظة الأب توما على كنيسته وإعادة ترميمها، غير أن اليهود العراقيين لم يتمكّنوا من ذلك، فلم يبقَ من دير اليهود المقابل للكنيسة سوى طابوق بقايا حائط قديم وباب حديد تلعب فيه الريح ذهابًا وإيابًا.