100%
حميد قاسم
يكثر البعض من الحنين إلى ما يسمونه: الزمن الجميل، مستائين من عصرنا وما يشهده من مآس وتخلف وجهل وتراجع مريع، وكأن بلدانًا مثل العراق وإيران وأفغانستان ومصر -مثلًا- كانت أمثلة للتحضر والمدنية في أربعينيات وخمسينيات وستينيات، وحتى سبعينيات القرن الماضي. فلا يكفينا القول إنها بلدان كانت فيها ملامح مشروع حداثوي تعثر بسبب الطغيان والانقلابات والأحزاب الشمولية، بأصنافها اليمينية كالقومية والدينية، واليسارية كذلك، بل يتمادى بعضنا ويميل نحو المبالغة.
الحقيقة في ما نراه من صور تمدن وحداثة منذ الأربعينيات في بلداننا تلك، إنما يمثل عيّنات مستلّة من محيط واسع مغاير، وهي صور تحديث نسبي في بلدان غالبية سكانها أميون ويعملون بمهن بسيطة لعل أهمها الزراعة، لذا فهي بلدان زراعية غالبًا..
أما أهل المدن، مثل البصرة وبغداد وطهران وكابل والقاهرة والإسكندرية، وكانوا أقليات في مجتمعاتهم القروية، وسط طوفان من الفقر والظلم والجوع والأمراض. وأقلية كهذه لا تحدد سمات تلك المجتمعات، لذا استغرب أحيانًا التأسي على الزمن الجميل، الذي لم يكن جميلًا، كما يتخيلون من الصور، لولا أننا نعيش أسوأ أزمنة بلداننا الآن.
يتباهى بعضنا بأننا ورثة حضارات عريقة تعاقبت على هذه البقعة من الأرض: السومرية والبابلية والأكدية والآشورية والإسلامية، فقد كأننا من أنجز تلك الحضارات وطورها وحافظ على تقدمها ودورها التنويري، لكن الحقيقة غير ذلك، ولو أخذنا بغداد مثالًا على ذلك، لوجدنا أن عاصمة العالم القديم قد انطفأ نورها منذ قرون، بعد سقوطها على أيدي الغزاة من التتر والمغول والفرس والترك، وأصبح تاريخها عبارة عن حلقات من الحصارات والأوبئة والفيضانات وتردي الحياة إلى أدنى المستويات جهلًا وتخلفًا وشظفًا. ومن يقرأ ما كتبه (لونكريك) عن العراق في أربعة قرون يصيبه الأسى والحزن لما آلت إليه هذه البلاد الغنية، التي توالى المستعمرون على نهب ثرواتها. فيما تشير مذكرات بعضهم ورسائلهم إلى مستوى الانحطاط الذي وجدوها عليه عقب دخول القوات البريطانية بغداد العام 1917، وهذا ما نجده في رسائل (غروترود بيل) ومذكرات (برترام توماس) وسواهما، إثر قطيعة مع العالم الحديث امتدت لنحو اربعة قرون من السلب الممنهج والإفقار والتجهيل الذي مارسته الإمبراطورية العثمانية..
لا أعرف أي زمن جميل يتباكى بعضهم عليه؛ الزمن الذي صعق فيه الناس حين شاهدوا الطائرات تشق سماء العراق، أم الزمن الذي أصيبوا فيه بالرعب حين شاهدوا المصابيح الكهربائية تنير ليل بغداد الطويل، حتى أنهم ظنوا أن ما يسري فيها من تيار إنما هو رجس من عمل الشيطان، أو أعمال الجن! أم زمن الطاغية ومقابره الجماعية!