100%
جمال العتّابي
مع تطور الحياة الإنسانية نحو آفاق حضارية جديدة، يدرك الانسان أن حياته ترتبط بمطلب أساس هو الحرية، بعد قرون طويلة عانى فيها شتى أنواع القهر والعبودية. من أجل هذا المطلب بذل الإنسان دماءه وقدم تضحيات غالية في سبيلها. منذ سومر وبابل وظهور الأفكار النظرية حول الحرية السياسية في أثينا، وروما القديمة، إلى ظهور مبادئ حرية العقيدة والرأي في العصور الوسطى.
مهدت أفكار جون لوك وروسو وفولتير الطريق أمام الوعي بها وأدوات المطالبة وقدرتها على التحول إلى نظم وقوانين. وجسّدت الرومانتيكية في القرن التاسع عشر الصورة المعبرة عن الليبرالية التي تضع حرية الفرد فوق أي اعتبار آخر.
لم تكن الحرية يومًا مفهومًا محصورًا في الكتب والخطابات، بل امتد تأثيرها إلى كل أشكال التعبير الإنساني، وكان الفن التشكيلي في مقدمة الفنون التي استلهمت معنى الحرية وعبّرت عنه، لا بوصفه موضوعًا فحسب، بل بوصفه فعلًا وجوديًا. ولعل أول الأعمال التي جسّدت فكرة الحرية تجسيدًا واضحًا ومباشرًا كانت لوحة "ديلاكروا": الحرية تقود الشعوب، فيها صوّر الفنان الحرية على شكل امرأة جميلة قوية، عارية الصدر، تندفع بشجاعة تقود الجموع ـ كان الفنان واحدًا منهم ـ وهي ترفع راية الحرية، علم الثورة الفرنسية.
هاجس الحرية
دفعت فكرة تقديس الحرية، ووضعها في أسمى المراتب، الدولة الناشئة في الولايات المتحدة الأميركية، إلى إقامة تمثال كبير للحرية في مدخل مدينة نيويورك المطلّ على مياه المحيط، على شكل امرأة تستقبل القادمين إليها، وعلى رأسها تاج وتحمل بيدها شعلة الحرية، في إشارة إلى أن الدولة الجديدة قامت على أسس احترام الحرية، وإعلاء شأنها.
وشهد القرن العشرون تحولات كبيرة باتجاه التحرر من الاستغلال والنفوذ الاستعماري بشتى أشكاله وأنواعه، واستطاع العديد من شعوب العالم نيل حريته واستقلاله عبر مخاضات نضالية وكفاح مرير من أجل الحرية وإنهاء التبعية. ولأنها ترتبط بالوعي والتعلم والثقافة، يلزم المجتمعات أن تنتقل حضاريًا على مراحل متقدمة في الحياة. ويظل هاجس الحرية في الفن التشكيلي موضوعًا غنيًا يعكس تفاعل الفنان مع العالم، وسعيه الدائم للتعبير عن ذاته وأفكاره ومواقفه، بعيدًا عن النمطية والتقليدية.
صرخة فنية
كان الفنانون قد تخطّوا الحواجز والقواعد الصارمة في المجتمع، فكانوا الطليعة في التصدي للقيود ومواجهة التعسف، وقدّموا أمثلة رائعة في التحدي عبر أعمالهم الفنية. نذكر على سبيل المثال: الجريكو، ورمبرانت، وغوغان، وفان كوخ. ويعد الرسام الإسباني (غويا) مثلًا واضحًا لحالة التمرد، إذ استطاع أن يثور على كل الأوضاع الفنية السائدة في عصره، ورفض الأوامر الملكية الرسمية، ليقدّم لنا، في سنوات عمره الأخيرة من حياته، المرحلة التي اتفق النقاد على تسميتها بالمرحلة السوداء، التي جاءت نموذجًا لسعي الفنان من أجل تأكيد ذاته، والتعبير عن كوامن نفسه بحرية كاملة. ولعل تجربة الفنان بيكاسو تعد مثالًا في تجسيد الحرية في لوحته الشهيرة "الجورنيكا" ذات البعدين الإنساني والسياسي، التي كانت صرخة فنية ضد اغتيال الحرية، واختيرت إحدى حمامات بيكاسو شعارًا للحرية والسلام. لقد عبّر عن الحرية كموقف ورمز.
كان القرن العشرون فضاءً أوسع للأصوات التي تنادي بحرية أشمل للإنسان، فيما كان الفن التشكيلي ميدانًا لتأكيد حرية الفنان في اختيار أسلوبه وموضوعاته ومذاهبه، واحترام الخيال الإنساني. وأسفرت الحرية الجديدة عن نماذج وأشكال مختلفة وطرز فنية على درجة عالية من القيمة. إن فكرة الحرية في الفن كانت السبب الرئيس والعامل الأهم في نشوء وتكوّن المدارس الفنية والتيارات الحديثة التي نتجت عنها أعمال في غاية الروعة. وكان مفهوم الحرية الفنية هو المحرّك الذي حفّز الفنان لينجز أعمالًا ما كان لسابقيه أن يتخيلوها.
مناخات ثقافية
في زمن قصير نسبيًا، توالت المدارس الفنية، وكل منها يجتهد في الكشف عن صور وانتقالات جديدة، وتجسيد خيال إنساني فريد، عبر تعدد المدارس الفنية وانتهاء عصر كان فيه الفنان مكبلًا بأسلوب محدد، فانطلق بخياله الفني يجوس بقاعًا مجهولة لم يطرقها أحد من قبل، ويخوض مغامرات تشكيلية فائقة الجرأة، وهو بذلك يثبت أن الخيال الإنساني من الخصوبة إلى درجة تجعله قادرًا على ابداع صور فنية لا نهائية.
تجدر الإشارة إلى أن هؤلاء الفنانين وجدوا في فضاءات بلدانهم مناخات ثقافية وحضارية صحيّة شجّعت -إلى حدٍ كبير- قبول أعمالهم لدى النخب الثقافية وجمهور متذوق يتمتع بالحرية.
في الطرف الآخر من العالم، كان الفنان المكسيكي دييغو ريفيرا 1886ـ1957 أعظم من جسّد الحرية في الفن، خصوصًا عبر جدارياته الضخمة التي تحولت إلى بيانات بصرية ثورية تحتفي بالإنسان، في مواجهته لكل أشكال الاستغلال والقهر، كانت جدارياته تصور نضال الشعب المكسيكي ضد الاحتلال الإسباني، وضد القهر الطبقي والاجتماعي.
سرد بصري
أما في الشرق، في العراق على وجه الخصوص، إذا صرفنا النظر عن الموانع والعوائق الاجتماعية والسياسية والدينية العديدة، التي تحد من حرية التعبير الفني، فإن الفنان لم يتوقف عند هذه الحواجز عاجزًا مستسلمًا لها، إنما أثبت الواقع تكريس موضوع الحرية كقضية مركزية في مواجهة الأنظمة الشمولية. فقدم الفنان العراقي جواد سليم سردًا بصريًا يمزج بين الأسطورة والتاريخ، مجسدًا مراحل الصراع العراقي من أجل التحرر في نصبه الخالد (نصب الحرية) في ساحة التحرير. وكان الفنان محمود صبري في أنقى تجلياته التي عبر عنها في تخطيطاته ورسوماته في بعدها الطبقي ـ الشعبي، كان يرسم الوجوه شديدة التوتر محاطة بأدوات القهر كنموذج للمعاناة والقسوة.
فنانون عراقيون آخرون استخدموا رموز: الشهيد، الطير، القفص، الأم، الجرح، عناوين لسردية الحرية، تبلورت ضمن سياقات سياسية واجتماعية وثقافية معقدة، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين. هؤلاء عبّروا عن هواجسهم بشأن الحرية بأشكال وأساليب مختلفة، بين التلميح والتصريح، وبين الرمزي والمباشر.
يمكن الإشارة بهذا الصدد الى "ملحمة الشهيد" للفنان كاظم حيدر، كنموذج لهذه الموضوعات، وحركة البعد الواحد للفنان شاكر حسن آل سعيد، حيث المسعى نحو التحرر من الأطر التقليدية. كان يرى في التجريد طريقة للوصول إلى حرية أعمق.
كما أسهم غالبية الفنانين العراقيين، في المعارض التشكيلية المكرّسة للوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني، في مقاومته للعنف والاحتلال، ومناهضة العنصرية. كما عبّر فنانون آخرون عن مواقفهم الإنسانية إلى جانب شعوب: فلسطين، وفيتنام، وشيلي ولبنان والجزائر وأريتريا وبوليفيا، وغيرها.
ضمن هذه السياقات، سعى الفنان العراقي بشكل جاد محاولًا التحرر من الرقابة، بل هو في بحث دائم عن الحرية والمعنى على الرغم من التحديات السياسية والأساليب القمعيّة.