ما وراء اللحن الشاعر أسعد الغريري وقصة ("بعد اليوم)"

وسام عويد في تجربة أسعد الغريري، الشعر لا يموت، والكلمة لا تتلاشى، بل تنبضُ باللحن والوجدان، لتبقى الأغنية العراقيَّة أكثر من مجرد صوت، فتصبحَ حضارة وحكاية ومشاعرَ تتقاطعُ بين زمن الشعر والغناء، ويظلُّ الشاعرُ واحدًا من الحراس الذين يجعلون من الكلمة الموسيقيَّة جسرًا بين الجمال والرسالة. "الشبكة العراقيَّة"، حين زارت الشاعر، لم تذهب فقط للتعريف بسيرته؛ بل لتسأل عن الحكاية المؤلمة خلف قصيدته الغنائية الشهيرة (بعد اليوم) التي غنّاها الفنان كريم حسين ولحّنها الراحل محمد جواد أموري. بعد اليوم يقول الغريري، بنبرة يختلطُ فيها الحزنُ بالفخر: "أكثر الجروح إيلامًا في حياتي كان يوم استشهاد شقيقي رعد، ثم شقيقي الآخر رغد. في أحد الأيام، بينما كنت أتهيأ للخروج إلى منطقة الصالحيَّة، استوقفتني والدتي (رحمها الله) وسألتني إلى أين أنا ذاهب، أقسمت لها بروح أخي رعد، فانكمشت وقالت لي بحزنٍ عميقٍ ما بعده حزن: "يمة لجمت كلبي بعد لا تذكر اسمه"… كلماتها سكنتني، وبدأت أغلي من الداخل، وولدت من تلك اللحظة كلمات أغنية (بعد اليوم). تنساب الكلمات من ذاكرته كما لو كانت تُكتب الآن: "بعد اليوم.. بعد اليوم تبدي يا زمن قصتي وي أحزاني بعد اليوم ما من حقي أجيب اسمك على لساني زماني وياك ما كمّل.. فرحتي بيك يا حيف قدر مكتوب أنساك.. وقدر مكتوب تنساني بعد اليوم أحن إلمن؟ عليمن أفرح وأحزن؟ كنت أقرب علي مني.. صرت بعد السما عني بعدك يا منى روحي.. أغني ومنهو يسمعني" بهذا الإيقاع الحزين تحوّلت التجربة الشخصيَّة إلى لحنٍ خالدٍ وصوتٍ يصدح بأوجاع الناس. كريم حسين أدّاها بصدقٍ نادر، ومحمد جواد أموري لحّنها بروح الطرب العراقي الأصيل. ومن هنا جاءت ولادة واحدة من أكثر الأغنيات تأثيرًا في وجدان الجمهور. هكذا هو أسعد الغريري: شاعر يمشي بين الذكرى والقصيدة، يحملُ في كلماتِه أرواحَ أحبته الراحلين، فيحوّل الحزن إلى نصوصٍ خالدة، والغصَّة إلى أغنياتٍ تُغنّى جيلًا بعد جيل. رحلة لذيذة وُلد الشاعر العراقي أسعد عبد العزيز الغريري عام 1954 في محافظة واسط، حاملًا في قلبه حب الكلمة منذ الصغر، متنقلًا بين الشعر الشعبي والفصيح، متتلمذًا على يد الأديب والناقد حاتم محمد الصكر، حتى لقّب بـ (مظفر النواب الصغير) لجرأته وحساسيته الشعريَّة. تخرج في الإعلام ونال شهادة الماجستير في السينما، لكنه اختار أنْ تكون الكلمات والموسيقى رفيقتي دربه، مسلكًا بين دفاتر الشعر ومكتبات الأغنية. للغريري دواوين شعريَّة عديدة، مثل (الصرخة)، وكتبٌ فكريَّة منها (التقدم إلى الوراء) و(الموجز المفيد في القواعد العربيَّة)، غير أنَّ صوته الأدبي ارتبط أكثر بالأغنيتين العراقيَّة والعربيَّة. كتب لأسماءٍ لامعة في الغناء، لعل في مقدمتهم كاظم الساهر، الذي قدّم له أكثر من 18 أغنية، بدءًا من (شجرة الزيتون)، لتمتزج كلماته مع صوت الساهر في رحلة لذيذة ومتعبة، حافلة بالقلق الذي يثمر الكمال، وبالموسيقى التي تتحرك بين الكلمات كنبضٍ حيّ. فكر الغريري في الاعتزال، متأثرًا بما رآه من تراجع الذائقة وهيمنة الأغاني الهابطة، لكنَّه تراجع، مؤمنًا بأنَّ الكلمة رسالة، وأنَّ الشعراء الحقيقيين يجب أنْ يظلوا حراسًا للذائقة الفنيَّة. وكتب أيضًا لمطربين مثل عبد الله الرويشد، وأسماء المنور، وغادة رجب، وأنغام، مؤكدًا أنَّ الأغنية الجيدة تحتاج إلى روح شاعرٍ واعٍ وإحساسٍ عميقٍ بالكلمة.