100%
حميد قاسم
يستدرجني بعض الأصدقاء، في جلساتنا الحميمية، للعودة إلى ذكرياتي ومحطات حياتي الأولى، والراهنة كذلك.
ولأني أتمتع بذاكرة فولاذية -هكذا يقول بعضُهم لي- عن أحداث مهمة وشخصيات مؤثرة في الأدب والفن وحتى السياسة.
أستفيض بسرد ذكريات لا تستفز ما نسميه الجو العام المسموح به الذي نعيشه، فأحدثهم عن أول تلفزيون دخل بيتنا، وعن معرفتي الأولى بكوكب حمزة، وصداقتي مع رياض أحمد وفاضل الربيعي وعبد الرحمن طهمازي، وعلاقتي التنظيمية (الحزبية) بهذا وذاك من نجوم الحياة العراقية (أو التلفزيونية) الآن وسابقًا، وإلى كثير مما يشبه هذا الكلام.
أكثر من مرة يقول لي بعض الأصدقاء: لم لا تكتب مذكراتك؟
نعم، لقد عشت حياةً طويلةً عريضةً ملأى بأخطر الأحداث إثارة في تاريخي الشخصي، وكذلك بتاريخ البلاد الحديث، مع شخصيات مؤثرة أصلًا، أو هامشية (قفزت فجأة لتصبح رقمًا صعبًا في الحياة العراقية).. ومع هذا كله أجد أن هذا وسواه -على أهميته- ليس سوى الجزء الطافي من جبل حياتي الغاطس تحت خط الأفق المسموح به..! أضحك أحيانًا حين أفكر بتدوين مذكراتي -لا نشرها- فأصرف النظر عن هذه الفكرة المجنونة الحمقاء، وأنا واثق أنها حياة لا تختلف عن كثير من الناس، ومنهم مَنْ هم من أقراني عمرًا وتجربة حياتية واجتماعية وإبداعية، وحتى سياسية، مع اختلافات أكيدة في التفاصيل، التفاصيل التي يكمن فيها الشيطان. وربما كانت حياة أولئك أغنى وأخطر وأكثر التباسًا وأشد مأساوية، فأنا لم أعدم رميًا بالرصاص، أو شنقًا حتى الموت، مثل كثير من أصدقائي وزملائي ورفاقي، يوم كنت متورطًا في لعبة السياسة..! الحقيقة أني أخشى أن أبوح بما حدث لي، أو ما مرّ بحياتي من أحداث وأشخاص، أو ما مررت به من تلك وهؤلاء، بعضهم وبعضهن خلقهم الله من نور خالص، وبعضهم من خلاصة الخسة والضعة، وثمة بينهما بالطبع أناس يشكلون المادة الأكبر للحياة، ولقد عرفت هؤلاء كلهم..!
أول ما أخشاه هو ما سأتذكره، وأول من أخشاه هم من أعرفهم ولا يعرفوني -بمن فيهم أقاربي وأصدقائي طبعًا-..!
حياة غير قابلة للتصديق أو القبول، لكنها حياتي، وقد حدثت، وعشتها بشغف وجنون وأسى ويأس أحيانًا..
كثير منكم عاش بعضًا منها، لكنهم ليسوا مطالبين بتدوينها، ولن يلومهم أحد، -مثلما لن يغتاظ منهم أحد، لأنهم ليسوا مطالبين بتلك المهمة-.. نعم لقد عاشوها، لكني أخشى أن أصبح مثلهم خانعًا مدلسًا كاذبًا، يخفي الكثير من الوقائع والأحداث لألف سببٍ وسبب، وأكثر.
ينبغي أن اتحدث عن طفولتي وصباي، عن بيوت ولدتُ وعشت وكبرت وأحببتُ فيها، عن نساء عرفتهن، أحببتهن وأحببنني، عن رفاق وثقت بهم وعملت معهم، تحملت مسؤوليتهم بكل صدق وجنون، وعن بطولات وجدت نفسي مرغمًا عليها، وعن مؤامرات لا تنتهي، وخذلانات وخيانات وفقدانات وميتات فاجعة، وأخرى لم تتحقق.
حياتي وأتباهى بها، بكل أخطائها وخطاياها، بكل ندمي على كثير مما فعلته بها، بلا مكابرة، ولا عزة بالإثم، ولا تبجح أجوف، وبكل اعتداد في اللحظة ذاتها.
هل أفعل واتقبّل اللعنات المريرة والشريرة من الجميع إلى الأبد..!؟
أغلب الظن أني سأفعلها، وليذهب من لن يرحمني إلى الجحيم.
وربما لن أفعلها، ولن أنال شيئًا سوى لعنة "الآخرين"، التي ستستمر طويلًا بتغذية الغباء والبلاهة والنذالة، الأشياء والقيم والمعايير التي صاروا جزءًا منها..!
سلام على دار السلام، جزيلُ.
عليها وعليكم.. وعليّ طبعًا.