100%
ضحى مجيد سعيد
شهدت محافظة دهوك في السنوات الأخيرة اكتشافات أثرية مهمة، نتيجة لانخفاض منسوب المياه في سد الموصل بفعل الجفاف والتغيرات المناخية. وبرغم الآثار السلبية على الزراعة والكهرباء والبيئة، كشف الانحسار عن مواقع أثرية ثمينة ظلت غارقة لعقود، ما منح علماء الآثار فرصة فريدة لإعادة دراسة تاريخ يمتد آلاف السنين في قلب بلاد الرافدين.
موقع أثري كبير
يقول د. بيكه س جمال الدين حسن، مدير الآثار والتراث في محافظة دهوك، إن "إنشاء سد الموصل عام 1986 غمر عشرات المواقع الأثرية تحت مياهه. منذ عام 2018، ومع تراجع غير مسبوق لمنسوب المياه، بدأت مديرية الآثار بإجراء مسوحات على أطراف السد. وفي عام 2023، تمكن الفريق من رصد تل أثري ضخم وسط السد، يحوي كسرًا فخارية وملتقطات أثرية متناثرة.
أهمية الموقع دفعت الفريق إلى الإسراع في التنقيب، إذ جرى الكشف عن مقبرة واسعة تضم نحو 40 تابوتًا فخاريًا، جميعها مرتبة باتجاه الشمال. المثير أن المقبرة قسمت إلى جزءين: علوي للبالغين وسفلي للأطفال. الدراسات الأولية تشير إلى أن هذه القبور تعود إلى العصر الهلنستي السلوقي، أي قبل نحو 2300 عام.
لم يقتصر الموقع على العصر الهلنستي فقط، بل أظهرت المكتشفات وجود آثار تعود إلى عصور مختلفة: من بدايات نينوى (نحو 2900 ق.م)، مرورًا بالعصر الميتاني، والعصر الآشوري الحديث، وصولًا إلى الحقبة الإسلامية. هذا الامتداد الزمني، الذي يناهز الخمسة آلاف عام، يعكس استمرارية الاستيطان في المنطقة، بفعل وفرة مياه نهر دجلة وخصوبة التربة.
حتى الآن، أحصت مديرية الآثار في دهوك 164 موقعًا أثريًا مغمورًا داخل سد الموصل، وما يزال العمل جاريًا على توثيقها واستكشافها."
خطط مستقبلية
يؤكد د. جمال الدين أن الخطط المستقبلية تركز على توثيق المواقع، والتنقيب في المناطق الأكثر عرضة للخطر، ثم نقل القطع الأثرية بطرق علمية حديثة إلى المتاحف.
حاليًا، تُجمع القبور المكتشفة وتُغلف لحمايتها، تمهيدًا لصيانتها ودراستها وعرضها للجمهور. هذه الجهود تهدف إلى إنقاذ إرث حضاري ثمين يروي قصة تفاعل الإنسان مع بيئته عبر العصور.
العصر الهلنستي (300 – 31 ق.م) مرحلة تاريخية وثقافية مهمة في الشرق الأدنى القديم. بعد فتوحات الإسكندر الأكبر، اندمجت الثقافة اليونانية مع تقاليد غرب آسيا وشمال إفريقيا، ما أسهم في نهضة معمارية وفنية وأدبية. في بلاد الرافدين، ترك الهلنستيون بصمات واضحة في العمارة الدينية المزخرفة، كما أولوا اهتمامًا خاصًا بالطقوس الجنائزية، إذ كانت توابيت القرفصاء على الجانب الأيمن ترافقها مقتنيات جنائزية تعكس التفاوت الطبقي والاقتصادي آنذاك.
أزمة السدود
إلى جانب الاكتشافات الأثرية، يبرز تحدي المياه بوصفه عاملًاً رئيسًا في كشف هذه المواقع. يوضح عبد الرحمن خاني، المدير العام للسدود في إقليم كردستان، أن سدود العراق تعاني من مناسيب متدنية وفراغات خزنية كبيرة، على سبيل المثال:
* سد دوكان: 6.8 مليار م³
* سد دربنديخان: 2.6 مليار م³
* سد دهوك: 0.052 مليار م³
الأسباب متعددة: التغير المناخي، وقلة الأمطار والثلوج، وارتفاع درجات الحرارة، فضلًاً عن بناء دول الجوار لسدود ضخمة على منابع نهري دجلة والفرات، ما قلل الواردات المائية. كما تلعب العوامل السكانية والزراعية والأمنية والإدارية دورًا في تفاقم الأزمة.
يرى خاني أن مواجهة الشحة المائية تتطلب إدارة رشيدة للموارد، باعتماد تقنيات ري حديثة، وحسم ملف المياه مع دول الجوار عبر الحوار والاتفاقيات، فضلًا عن إنشاء سدود جديدة وفق الدراسة الستراتيجية للمياه 2014 – 2035. ويؤكد أن استمرار الأزمة قد يترك آثارًا سلبية على الاستقرار السياسي والاجتماعي، ما يجعل الملف المائي واحدًا من أخطر التحديات أمام العراق.
نافذة على التاريخ
هذه الاكتشافات، التي تمثل 164 موقعًا أثريًا، و40 قبرًا هلنستيًا ليست مجرد قطع أثرية، بل شهادة على حضارة استمرت آلاف السنين، وأداة لفهم علاقة الإنسان ببيئته ونهره ودوره في تشكيل التاريخ العراقي. كل قطعة فخارية وكل قبر مكتشف هو قصة تُروى عن الحضارات المتعاقبة، عن الإنسان وماء دجلة، وعن صبر علماء الآثار الذين ينقبون وسط الجفاف ليكشفوا ماضي العراق الغارق والمندثر.