100%
ريا محمود
مع حلول شهر أيلول، تبدأ أجراس الكنائس العراقية تعلو بإعلان أعياد مريم العذراء. فالمسيحيون من الكلدان، والسريان، والأرمن، والكاثوليك والأرثوذكس، يحتفلون في أيام متفرقة من هذا الشهر بأعيادها (8 أيلول عيد ميلادها، القداديس تقام منذ الصباح، إذ تُضاء الشموع وتُقرأ الصلوات طلبًا للحماية والبركة.) وبعد أسبوع، في 15 أيلول، يحل عيد (أم الأحزان)، حين تُستعاد صورة مريم واقفة تحت صليب أبنها يسوع، شاهدةً على الألم. هنا يتحول الاحتفال إلى لحظة تأمل وصمت، تجمع بين الفرح بالميلاد والحزن على الفقد.
في العراق، لم تبقَ هذه الاحتفالات حكرًا على الطوائف المسيحية. فالعذراء التي تُعرف بـ(أمّ يسوع) أو (أم الأحزان)، تحوّلت في المخيال الشعبي العراقي إلى رمزٍ للأرض، للخصب، وللحماية، تمامًا كما كانت عشتار يومًا ما تُحاكي دورة الطبيعة والمواسم.
الأسطورة والتاريخ
الوعي العراقي القديم كان مأهولًا بصور الإلهة الأم، سيدة الخصب والحماية. اذ أشعل البابليون البخور لعشتار، سيدة الخصب والولادة، وناجت السومريات نينهورساج، (أم الخليقة). ومع المسيحية، تسلّلت هذه الرمزية إلى صورة العذراء مريم التي احتضنت في وجدان الناس فكرة الأم الحامية والشفيعة.
في الحكايات الشعبية، يقال إن مريم تشارك الناس أوجاعهم، وتزور بيوتهم في الأحلام، وتبارك أطفالهم. وفي نينوى مثلا، سُجلت روايات عن تجليات لصورها على جدران أو أشجار قرب الأديرة، دفعت الأهالي، مسيحيين ومسلمين، لزيارتها حاملين الشموع والنذور. هكذا صارت مريم أقرب إلى قلوب العراقيين، لأنهم رأوا فيها استمرارًا لذاكرة قديمة: امرأة تمنح الحياة وتتحمل الحزن وتبقى واقفة رغم كل شيء. لذلك، لم يكن غريبًا أن تصبح رمزًا جامعًا لكل الطوائف، وأن يُخصّص لها شهر كامل — أيلول — للاحتفال والصلوات.
الذاكرة العراقية
أقام المسيحيون في العراق كنائس تحمل اسمها، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، فبحسب تقديرات الكنيسة، يبلغ عدد المسيحيين اليوم ما يقارب نصف المليون نسمة. ينتمون إلى طوائف متعددة: الكلدان الكاثوليك، والسريان الكاثوليك والأرثوذكس، والآشوريين (كنيسة المشرق)، والأرمن الكاثوليك والأرثوذكس، إلى جانب اللاتين. وعلى اختلاف مذاهبهم، يتفق الجميع على أن أيلول هو شهر العذراء.
تتوزع هذه الكنائس بين المدن العراقية، لتشكّل مع كل جرس يقرع صورة من صور التقديس والوفاء. هذه الكنائس لم تكن مجرد أماكن عبادة، بل شواهد تاريخية تحكي عن قرون من التعايش، وعن مدن حملت في قلبها مزيجًا من الأديان والمذاهب، ووضعت للعذراء بيتًا بين أحيائها.
من هذه الكنائس كاتدرائية (أم الأحزان) في بغداد (1843)، التي بُنيت وسط الرصافة لتكون ملاذًا للمؤمنين، وما زالت حتى اليوم تستقبل نذور الأمهات. وكنيسة (الطاهرة الكبرى) في قره قوش (سهل نينوى)، واحدة من أضخم كنائس الشرق الأوسط، تعود إلى القرن الخامس عشر، وهي مركز لاحتفالات أيلول. وكنيسة (العذراء) في كرمليس ونينوى، حيث يحضر الفلاحون بأدعيتهم مع مواسم الحصاد، التي تحتفظ بتقاليد صلوات العذراء المخصصة للحماية والوفرة الزراعية. وفي بغداد كنيسة (المسكنتة) في ساحة الميدان، التي بنيت عام (1639)، وتحولت إلى أيقونة للأمهات الفاقدات أبناءهن. وكنيسة (أم الأحزان) في العمارة، التي تمثل مركزًا للصلوات الشعبية والنذور، مع ارتباطها بقرى ومزارع الجنوب.
أيلول النذور
أيلول في العراق شهر الحصاد. ومعه يتضاعف الحضور المريمي. فالعذراء هنا ليست فقط أيقونة دينية، بل إنها أيضًا (سيدة الزرع)، حامية السنابل والكروم. هكذا ظل الفلاحون في نينوى والموصل يتلون الأدعية في الكنائس، وهم يربطون بين اكتمال المحصول وبركة مريم. وفي بغداد، حيث تختلط الطوائف، ظل العراقيون جميعا – مسلمون ومسيحيون – يشعلون الشموع لها، طلبا للطمأنينة.
في بغداد والموصل والجنوب، تحمل الأمهات نذورهن إلى الكنائس: شموعًا، وحليًا بسيطة، وخبزًا، أو مجرد دموع. كثيرات يطلبن منها حماية الأبناء، كما يطلب الفلاحون حمايتها للزرع. هذه الازدواجية بين الأمومة والأرض جعلتها رمزًا عابرًا للطوائف.