100%
محمد عبد الجبار الشبوط
منذ نشأة الدولة في التاريخ البشري، اتخذت أشكالًا شتى، اختلفت في وظائفها وغايَاتها وأساليب إدارتها. لكنّ إحدى أخطر صور الدولة التي ابتُليت بها مجتمعاتنا، هي ما يمكن تسميتها بـ "الدولة الغنائمية"، أي الدولة التي تُختزل إلى وسيلة لتقاسم النفوذ والثروة بين الجماعات المتنافسة، فتتحوّل إلى ساحة صراع، لا إلى حاضنة عدل وتنمية.
الدولة الغنائمية لا تقوم على فكرة الصالح العام، بل على منطق الغنيمة، حيث تنظر الجماعات — دينية أو طائفية أو قومية أو حزبية — إلى الدولة بوصفها غنيمة يجب الاستحواذ عليها، أو على جزء منها. الوزارات، المناصب، العقود، وحتى السياسات، تصبح حصصًا تتقاسمها الأطراف القوية وفق ميزان القوى، لا ميزان القيم أو الكفاءة أو المصلحة العامة.
هذه الدولة لا تُدار كمؤسسة، بل كمزرعة، ولا تُبنى على المواطنة، بل على الولاءات، ولا تنتج تنمية، بل فسادًا، وهدرًا، وتعطيلًا دائمًا لمقدرات المجتمع. ومن داخلها تتآكل الثقة، وتتفكك الهوية الوطنية، ويضعف الانتماء، وتتفجر الأزمات.
في المقابل، تطرح الدولة الحضارية الحديثة رؤية مغايرة تمامًا، تقوم على أن الدولة ليست ملكًا لأحد، بل هي إطار مؤسسي قيمي لخدمة جميع المواطنين على قدم المساواة، بصرف النظر عن انتماءاتهم أو خلفياتهم. الدولة الحضارية ليست غنيمة بل أمانة، ليست ساحة صراع بل حقل تكامل، وليست وسيلة للسيطرة، بل وسيلة للرقيّ الجمعي.
فلسفة الدولة الحضارية تنبع من الفهم القيَمي للوجود البشري، حيث الإنسان ليس مجرد كائن بيولوجي، بل فاعل أخلاقي مكلف بإعمار الأرض وفق منظومة قيمية عليا. وبناءً على ذلك، فإن مؤسسات الدولة يجب أن تكون مرآة لهذه القيم: العدالة، الكفاءة، الشفافية، الرحمة، الإحسان، المشاركة.
في الدولة الحضارية، يُنظر إلى المنصب بوصفه وظيفة لا امتيازًا، وإلى السلطة بوصفها مسؤولية لا مغانم، وإلى الخدمة العامة بوصفها عبادة لا تجارة. ويتحول المواطن من متسوّل للحقوق إلى شريك في صناعة القرار، ومن تابع لزعيم إلى فاعل حضاري في بناء الدولة.
إن التحوّل من الدولة الغنائمية إلى الدولة الحضارية ليس انتقالًا في الشكل فقط، بل هو تحوّل جذري في فلسفة الدولة ذاتها، من الانغلاق إلى الانفتاح، من النهب إلى البناء، من التحاصص إلى التكامل، من الرغبة في السيطرة إلى الرغبة في الخدمة.
ولهذا، فإن بناء الدولة الحضارية الحديثة هو ليس مشروع إصلاح سياسي فقط، بل مشروع تحوّل أخلاقي وثقافي وقيمي، يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والسلطة، ويمنح المجتمع معنىً جديدًا للعيش المشترك تحت مظلة دولة تمثّل الجميع وتنتمي إلى الجميع.