الموصل / خالد إبراهيم - تصوير / حسين طالب
في مشهد مهيب يختصر رحلة الألم والأمل، شهدت مدينة الموصل افتتاح جامع النوري وكنيستي الساعة والطاهرة، بعد إتمام أعمال الإعمار والترميم، وذلك بحضور دولة رئيس الوزراء وعدد من الشخصيات الرسمية والدينية والثقافية. هذا الحدث لم يكن مجرد إزاحة ستار عن جدران أعيد بناؤها، بل إعلان رمزي عن عودة روح الموصل إلى الحياة وتجديد ذاكرتها التي حاول الإرهاب محوها. المدينة التي عانت ويلات الدمار والخراب، تعود اليوم لتنهض من جديد بثقافتها وتنوعها ورمزيتها الحضارية، التي لطالما شكلت عنوانًا لوحدة العراقيين. الموصل القديمة، تلك الشبكة المعقدة من الأزقة الضيقة والأسواق التقليدية، كانت شاهدة على حضارات متعاقبة، آشورية وعربية، وتضمنت معالم دينية وثقافية مهمة تجمع بين المسلمين والمسيحيين على مر القرون. ولكن مع احتلال تنظيم داعش الإرهابي للمدينة عام 2014، دُمّرت نحو 80 % من المباني التراثية، بما فيها الجامع النوري ومئذنته الحدباء وكنيسة الطاهرة وكنيسة الساعة، بالإضافة إلى مكتبات ومتاحف كانت تحتوي على مخطوطات وكتب نادرة. جهود الإعمار أنس زياد، مسؤول إعمار كنيسة الطاهرة في منظمة اليونسكو، تحدّث قائلًا: "المشروع تم بتمويل من دولة الإمارات العربية المتحدة، بالتعاون مع الحكومة العراقية، ممثلة بديوان الوقف السني وديوان الوقف المسيحي، إضافة إلى مفتشية آثار وتراث نينوى. لقد كان عملاً جبارًا جمع أطرافًا متعددة تحت مظلة هدف واحد: إعادة الحياة إلى قلب الموصل القديمة. شمل المشروع إعادة إعمار كنيسة الساعة وكنيسة الطاهرة والجامع النوري ومئذنته الحدباء، التي كانت رمزًا لتاريخ المدينة قبل أن ينالها الخراب على يد عصابات داعش الإرهابية." أضاف زياد: "خلال سنوات العمل، كان موقع الإعمار يستقطب الزوار من مختلف أنحاء العالم، من سفراء ودبلوماسيين وسياح، جميعهم أرادوا أن يشاهدوا كيف تعود الموصل إلى الحياة. هذه المواقع ليست مجرد مبانٍ، بل هي رسالة سلام بين مكونات المدينة، ورمز حقيقي لتنوعها الديني والاجتماعي." وأردف: "الموصليون هم من صنعوا المعجزة. فالمسيحيون شاركوا في إعادة بناء الجامع النوري، والمسلمون أسهموا في ترميم كنيسة الطاهرة. الجميع عملوا بمحبة وتفانٍ وإخلاص، في مشهد يعكس التلاحم الحقيقي الذي حاول الإرهاب طمسه. هذا العمل الجمعي رسالة واضحة بأن الموصل لا يمكن أن تُكسر، وأن أبناءها قادرون على حماية هويتهم المشتركة مهما اختلفت انتماءاتهم الدينية والثقافية." ذاكرة حضارية الشيخ الدكتور أحمد راكان العبادي، الناطق الرسمي باسم دائرة الوقف السني في نينوى، قال: "لا خير في أمة تجهل ماضيها. ومن أعظم ما يعتز به الإنسان حضارته وتراثه، خصوصًا الجامع النوري الكبير، المبني منذ أكثر من 850 عامًا في عهد نور الدين زنكي. لم يكن الجامع مجرد مكان للعبادة، بل رمز للهوية والذاكرة الجمعية لكل موصلي، بل ولكل عراقي. دمره تنظيم داعش عام 2017، في جريمة هزّت مشاعر العراقيين والعالم." وأضاف: "بفضل تضافر الجهود، من الحكومة المركزية إلى الحكومات المحلية، ومن ديوان الوقف السني إلى دعم دولة الإمارات واليونسكو، عاد الجامع إلى الحياة. وخلال أعمال الترميم جرى اكتشاف معالم أثرية ثمينة، مثل المتحف الرخامي الأصلي للجامع، ومحال الوضوء التاريخية التي لم تكن معروفة من قبل. ومع اكتمال الإعمار، عاد الجامع ليعانق مئذنته الحدباء، ليشكل لوحة خالدة من ذاكرة الموصل." وأشار العبادي إلى أن "الجامع اليوم ليس فقط لأداء الصلوات، بل أصبح معلمًا حضاريًا وسياحيًا يستقطب العائلات والزوار من داخل العراق وخارجه. أبوابه مفتوحة يوميًا من الساعة العاشرة صباحًا حتى العاشرة مساءً، مجسدًا عودة الحياة الطبيعية والثقة إلى قلوب الموصليين." رسالة وحدة محمد كاكائي، عضو مجلس محافظة نينوى، أكّد: "تشرفنا بقدوم دولة رئيس الوزراء المهندس محمد شياع السوداني إلى محافظة نينوى، حيث قام بجولة داخل أزقة الموصل القديمة، تلك الأزقة التي كانت شاهدة على الدمار الذي ألحقته بها عصابات داعش الإرهابية. اليوم، وبسواعد الأبطال وإصرار أهالي نينوى وحبهم للحياة، استعادت الموصل جزءًا كبيرًا من بهائها الطبيعي ومكانتها الريادية." وأضاف: "افتتاح الجامع النوري الكبير والمئذنة الحدباء والكنائس لم يكن حدثًا محليًا فحسب، بل رسالة وطنية للعالم أجمع تؤكد أن الموصل قادرة على تجاوز المحن واستعادة دورها التاريخي. كما أن الحكومة المحلية ومجلس المحافظة لعبا دورًا مهمًا في إحياء التراث الموصلي، إلى جانب المشروعات الحيوية، مثل كورنيش دجلة، وإنشاء أكثر من 120 منزلًا على الطراز الموصلي القديم، بالتنسيق مع الحكومة الاتحادية." بوابة التراث اليوم، بعد سنوات من الترميم والإعمار، تستعد الموصل مكانتها كواحدة من أهم مدن العراق الثقافية والتاريخية. المدينة القديمة التي عانت من الخراب، باتت تجذب الزوار والسياح من داخل العراق وخارجه، للاطلاع على جمال الأزقة التقليدية والأسواق القديمة، واستكشاف معالمها الدينية المتنوعة من مساجد وكنائس ومتاحف، التي توثق حضارات متعاقبة. جهود الإعمار لم تقتصر على المباني فحسب، بل امتدت إلى إحياء الطراز المعماري التقليدي للمنازل، وتعزيز السياحة الثقافية، وإطلاق مهرجانات تراثية تحتفي بالتراث الموصلي، لتصبح الموصل نموذجًا حيًا للنهوض بعد الدمار. وفي هذا السياق، باتت المدينة رمزًا للصمود والتعايش، وشاهدة على قدرة أهلها على تحويل الألم إلى إبداع، والتاريخ إلى مصدر أمل لمستقبل أكثر إشراقًا.