زياد جسام - تصوير:حسين طالب - خضير العتابي
شهدت العاصمة بغداد وبحضور دولة رئيس مجلس الوزراء، محمد شياع السوداني، انطلاق فعاليات معرض بغداد الدولي للكتاب بدورته السادسة والعشرين للعام 2025، التي تستمر حتى الحادي والعشرين من الشهر الحالي، الذي يُعد أحد أبرز التظاهرات الثقافية التي ينتظرها العراقيون سنويًا، بوصفه نافذة للمعرفة ومنصة للتواصل الفكري والإبداعي بين العراق والعالم. السوداني، الذي تجول في أروقة المعرض، وزار عددًا من أجنحة الدور المحلية والعربية، بارك، في كلمة له، "انطلاق فعاليات المعرض." مبينًا أنّ "هذا الحدث يتصل بما احتضنته بغداد خلال السنوات الثلاث الماضية من عمر الحكومة، العديد من الأحداث والفعاليات السياسية والاقتصادية والثقافية." مشيرًا إلى أن "بغداد تمثل ملتقى حضاريًا وثقافيًا، ونقطة التقاء للأفكار والآراء والمعارف بمختلف مجالاتها." مرحبًا بضيف شرف المعرض، دولة قطر الشقيقة، مجددًا التأكيد على الوقوف إلى جانب الأشقاء العرب، واستنكار العدوان الصهيوني على قطر، مضيفًا: "يعد الجانب الثقافي واحدًا من أولويات الحكومة، فتأثيره وأهميته يوازيان أهمية وتأثير السياسة والاقتصاد والتنمية." مردفًا: "نعيش اليوم حروب أفكار وثقافات تستعمل فيها الأسلحة الناعمة لاختراق البلدان والشعوب." منوهًا بأن "الثقافة هي الصوت الأقوى والسلاح الفاعل الذي لا تستطيع أقوى الأسلحة إسكاته أو هزيمته." موضحًا أننا "نحتاج إلى الثقافة من أجل الدفاع عن شعوبنا، التي يجري استهدافها منذ سنوات بحروب ظالمة، في مقدمتها الحرب ضد الشعب الفلسطيني بغزة، ومثقفونا وكتابنا مدعوّون للدفاع عن أوطاننا، عبر توثيق ما يحدث في مؤلفاتهم، لكي تظلَّ دليلًا دامغًا في التاريخ." إشعاع فكري فيما أكد الدكتور عبد الوهاب الراضي، رئيس اتحاد الناشرين العراقيين، رئيس اللجنة المنظمة للمعرض، في حديثه لـ "الشبكة العراقية" أن هذه الدورة جاءت مميزة من حيث حجم المشاركة وعدد الدول الحاضرة، إذ تشارك فيها أكثر من 600 دار نشر عربية وعالمية وعراقية، إضافة إلى مؤسسات بحثية ووكالات للنشر والتوزيع، فيما بلغ عدد الدول المشاركة 21 دولة، وهو الرقم الأعلى في تاريخ المعرض، مقارنة بالدورات السابقة، إذ شهدت دورة العام الماضي مشاركة 17 دولة فقط. وأوضح الراضي أن اللجنة المنظمة عملت على مدى أكثر من ستة أشهر من أجل تلافي الملاحظات السابقة، وتقديم نسخة تليق بتاريخ بغداد ومكانتها الثقافية. وأشار إلى أن دولة قطر حضرت ببرنامج واسع وفاعل يضم ندوات فكرية وثقافية ومشاركات لشخصيات مهمة وأساتذة وباحثين، بما يضفي بعدًا عربيًا وعالميًا على فعاليات الدورة. كما حضر ضيوف من دول عربية عدة، ليغنوا المعرض بحوارات ثقافية وأنشطة فنية متنوعة، تجعل من بغداد مركزًا للاشعاع الفكري على مدى أيام الحدث. مصدر المعرفة يعد معرض بغداد الدولي للكتاب مناسبة ينتظرها القارئ العراقي بشغف، إذ يجد فيه جديد الكتب في مجالات الأدب والثقافة والفكر والعلوم وكتب الأطفال، فضلًا عن الإصدارات الحديثة التي قد لا تتوفر في الأسواق المحلية بسهولة. وهذا ما يؤكد أن الكتاب ما يزال يحتفظ بمكانته رغم ثورة التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة، فهو مصدر المعرفة الأوثق، ووسيلة لبناء جيل واعٍ قادر على مواجهة تحديات العصر. لم يقتصر المعرض على عرض الكتب، بل حمل في طياته برنامجًا ثقافيًا غنيًا بالندوات والمحاضرات، التي تتناول موضوعات تلامس الواقع العراقي والمستقبل، مثل مشروعات التنمية، والتكنولوجيا، والحداثة، والاقتصاد، إلى جانب موضوعات الهوية واللغة والإبداع. هذه الفعاليات لا تعزز فقط ثقافة القراءة، وإنما تفتح أبواب النقاش والحوار بين المثقفين والجمهور، لتكون بغداد -بحق- عاصمة للكتاب. كما شهد المعرض إطلاق مبادرة "اقرأ"، التي تهدف إلى ترسيخ عادة القراءة في المجتمع العراقي، وتشجيع الشباب على اقتناء الكتب، إذ جرى توزيع كوبونات مجانية مدفوعة الثمن من قبل بعض الوزارات، من بينها وزارة الشباب والرياضة ووزارة التجارة، وهي بمثابة هدية للقارئ العراقي ودعم مباشر لحقه في الوصول إلى المعرفة. مساحات للتلاقي يرى مراقبون أن مثل هذه الفعاليات تمثل دعامة أساسية لمشروع ثقافي واسع في العراق، فالمعارض لا تقتصر على كونها أسواقًا للكتب، بل هي أيضًا فضاءات للتلاقي بين الأفكار والتجارب، وملتقيات تفتح آفاق التعاون بين دور النشر والكتاب والمؤسسات الأكاديمية. كما أن حضور هذا العدد الكبير من دور النشر والدول المشاركة يعكس صورة إيجابية عن العراق، وحرصه على استعادة مكانته الحضارية والثقافية في المنطقة. سامر السبع، مدير (دار نابو للنشر والطباعة)، وهي من بين الدور المشاركة في المعرض، أشار في حديثه لـ "الشبكة العراقية" إلى أن "هذه الدورة شهدت العديد من التطورات الإيجابية التي أسهمت في خدمة القارئ، من أبرزها إطلاق مبادرة (اقرأ)، علمًا أن المبادرة قد جربناها في المعارض السابقة، وأثبتت نجاحها، وكانت نتائجها رائعة، حين وزعت آلاف الكوبونات المجانية." أضاف السبع أن مشاركة دولة قطر كضيف شرف، لها أيضًا تأثير إيجابي ومهم، إذ عمل جناحهم على إعداد خطة مميزة لتوزيع كتب مجانية خاصة بالأطفال على مدار أيام المعرض. عرض حي وتحدث السيد جاسم أحمد البو عينين، مدير إدارة المكتبات في وزارة الثقافة القطرية لـ "الشبكة العراقية" قائلًا: "سعداء بتواجدنا اليوم في معرض بغداد الدولي للكتاب، كضيف شرف في هذه النسخة. تأتي مشاركة الوزارة، بداية، من حيث تصميم جناحنا، الذي يحمل الطابع والعمارة التقليدية في قطر، بالإضافة إلى عرض النتاج الفكري القطري من خلال إصدارات وزارة الثقافة المتنوعة في جميع المجالات." مشيرًا إلى أن المكتبة الإلكترونية ستتيح للجمهور التعرف على جميع إصدارات الوزارة من خلال الشاشات. مبيّنًا أن "هناك جانبًا للتعريف بالثقافة من خلال الحِرف الشعبية الموجودة عبر عرض حي لجمهور المعرض، إضافة إلى وجود مبادرات خاصة تشجع على القراءة." مضيفًا أن منهاجهم يتضمن إقامة أمسيات شعرية لشعراء قطريين وعراقيين. إنجاز نوعي فيما أوضح السيد فهد عكوش، من (دار النهار) اللبنانية، أن مشاركتهم في المعرض ليست الأولى لهم كدار نشر، وأضاف: "ننتظر هذا الموسم بشوق دائمًا لنكون قرب القارئ العراقي من خلال إصداراتنا الجديدة والسابقة، التي تتضمن كتبًا تتناول المجتمع العراقي." أما ثائر العصامي، مدير دار نشر وتوزيع، وعضو اتحاد الناشرين العراقيين فقال: إن "ما يمز هذه الدورة عن بقية الدورات، اشتراك أكثر من 600 دار نشر وهيأة، ومؤسسات وجامعات ووزارات عراقية، و21 دولة عربية وأجنبية، إضافة إلى مشاركة وفد من دولة قطر الشقيقة، ضم 100 شخصية ضمن فعاليات ونشاطات فنية وثقافية متنوعة وندواة شعرية وأدبية، وهذا يدل على أن المعرض لهذه الدورة حقق إنجازًا نوعيًا من النواحي التنظيمية والإدارية ". فضاء ثقافي كذلك كانت لنا وقفة مع بعض زوار المعرض، ومنهم الشاب ياسر مروان -طالب جامعي- الذي قال عن المعرض: "لا أبالغ إن قلت إن معرض الكتاب هو المكان الوحيد الذي نشعر فيه بالمتعة الحقيقية، حيث يجمع بين الفائدة والمتعة في آن واحد. بالنسبة لي ولأصدقائي، فإن أيام المعرض تمثل فسحة استثنائية، نتردد خلالها على أروقته باستمرار، نتجول بين دور النشر، ونقتني ما نشتهيه من عناوين جديدة، كما نحرص على متابعة الندوات والمحاضرات التي تقام، لأنها تمنحنا فرصة للاطلاع على رؤى وأفكار لم نكن لنتعرف عليها لولا هذا الفضاء الثقافي." تظاهر ثقافية في جولة بين أروقة المعرض، لفت انتباهنا مشهد جميل لإحدى السيدات التي كانت تتجول مع طفلتها ذات العشرة أعوام، بينما كانت الصغيرة تحمل بين يديها مجموعة من الكتب بحماس واضح. وعند سؤالنا والدتها عن هذا المشهد، ابتسمت وقالت: "ابنتي نشأت منذ صغرها على مكتبتي المتواضعة في المنزل، وكانت تنظر اليها بإعجاب، حتى أصبحت القراءة جزءًا من يومها. ومنذ ذلك الحين، صارت الكتب عالمها المفضل. لذلك أحرص على اصطحابها دائمًا إلى معارض الكتب، لأغرس فيها حب الكتاب أكثر، وأعرفها على قيمته الحقيقية، فأنا مؤمنة بأن الكتاب هو الذي يفتح مخيلة الإنسان، ويمنحه القدرة على الحلم والابتكار، وهو ما يجعله مختلفًا عن الآخرين، وقادرًا على رسم طريقه في الحياة." وأضافت قائلة: "وجود ابنتي في مثل هذه التظاهرات الثقافية في بغداد يمنحها دافعًا أقوى للتعلق بالقراءة، فالكتاب بالنسبة لنا ليس مجرد أوراق مطبوعة، بل رفيق حياة يفتح الأفق نحو المستقبل، ويبني الثقة بقدرة أبنائنا على التغيير والإبداع." وبذلك، يؤكد معرض بغداد الدولي للكتاب، في دورته السادسة والعشرين، أن الكتاب ما زال هو الجسر الأهم بين الماضي والحاضر والمستقبل، وأنه بالرغم من كل التحديات يبقى حيًا في وجدان العراقيين. مشاهد الشباب المتحمسين، والأُسر التي تصطحب أطفالها، والحوارات التي تدور في الندوات، كلها تعكس حقيقة واحدة: أن القراءة ما زالت قادرة على أن تمنح الأمل، وتبني الإنسان، وترسم ملامح الغد. ولعل أجمل ما يقدمه المعرض، هو هذا الحافز الجمعي للعودة إلى الكتاب، باعتباره الرفيق الذي لا يخون، والنافذة التي لا تُغلق.