100%
نرمين المفتي
قبل أكثر من 13 مليار سنة، أضاء الكون أول شعاعاته، ونشأت النجوم الأولَيات في فراغ كان كله صمتًا وظلامًا. ذلك الضوء، الذي بدأ رحلته حين لم يكن هناك كوكب ولا حياة، ولا حتى الزمن كما نعرفه، وصل إلينا اليوم. كل فوتون يحمل قصة من بدايات كل شيء، رحلة عبر الفضاء والزمان، ليضعنا وجهًا لوجه مع اللحظة الأولى التي بدأ فيها الكون يكتشف نفسه.
على بعد 1.5 مليون كيلومتر من الأرض، التقط تلسكوب "جيمس ويب" شعاع ضوء خافت عبر الفضاء، ضوء بدأ رحلته قبل أن تتشكل الارض، أن يولد الإنسان، قبل أن يكتب أول نص مقدس، وقبل أن تخترع الكراهية بأسمائها الحديثة.
ذلك الضوء ليس مجرد شعاع في السماء، بل نافذة على الماضي البعيد، على لحظة من الكون حين كانت المادة تتجمع لتشكل النجوم والمجرات الأولى. كل فوتون سافر بلا كلل عبر فراغ هائل، قاطعًا مجرّات لم تولد بعد حين انطلقت رحلته، ليصل إلينا بعد عمر يفوق كل تصور بشري.
ما يثير الدهشة ليس فقط البعد الزمني، بل المعنى الفلسفي العميق لهذه الرحلة. حين ننظر إلى ذلك النور، نحن لا ننظر إلى مكان، بل إلى زمن آخر، زمن كان موجودًا قبل أن نكون، قبل أن تنبض الحياة على كوكبنا. كل شعاع يذكرنا بأن الحاضر ليس مطلقًا، بل طبقة من لحظات متداخلة، وأن الماضي لا يموت، بل يسافر ليخبرنا ما هو الكون وكيف بدأ.
هذا النور يضعنا أيضًا في مواجهة حقيقة وجودنا، نحن كائنات عابرة في فضاء لا متناه، لحظة قصيرة في نسيج الزمن، لكن لدينا القدرة على التأمل وفهم ما تجاوزنا. نحن جزء من قصة أكبر منا ولسنا مركزها، لكن وعينا يمكنه أن يستوعب ماضي الكون، وأن يقرأ إشاراته، ويستنتج حكمة وجوده. إنه تذكير بأن كل لحظة نعيشها، وكل قرار نتخذه، جزء من هذا النسيج الكوني، وأننا مثل هذا النور، رسائل تسافر عبر الزمن، تترك أثرًا ولو صغيرًا. وعندما نتأمل فيه، نفهم أن الكون ليس فقط ما نراه، بل ما يمكن أن نتصوره من رحلة الوجود، وما يمكن أن نحاول استيعابه من معنى الزمن والخلود الذي يتجسد في وميض بعيد، جاءنا بعد أكثر من 13 مليار سنة، ليخبرنا بأن كل شيء كان، وكل شيء ممكن أن يكون.