كيف ننقذ ذاكرة أمتنا العراقية؟ قصة حزينة عن الفن التشكيلي العراقي

فاضل محسن في أحد فنادق بغداد المهجورة، تُخبأ عشرات الأعمال الفنية النادرة للفنان فائق حسن تحت طبقات من الغبار والنسيان. بعضها لم يُوثق، ولم يُصور، أعمال لم يرها أحد، وبقيت وحيدة في زوايا الإهمال. دار كريستي اضطرت، عام 2017، لإزالة لوحة لنفس الفنان من مزادها في دبي بسبب نزاع حول ملكيتها، بينما في مكان آخر من العالم، بيعت لوحة للفنان جواد سليم بآلاف الدولارات دون أن يعرف أحد كيف خرجت من العراق! القصص المؤلمة لا تنتهي. لوحة (الحصان الأسود) للفنان شاكر حسن آل سعيد اختفت من معرض ببغداد في التسعينيات، لتظهر فجأة في لندن عام 2018. أما لوحة (المرأة العارية) لفائق حسن، فقد بيعت في إسطنبول عام 2020 بمبلغ 1.2 مليون دولار، دون أن يعرف أحد من أين جاءت، أو من كان يملكها، والأمثلة كثيرة. تهريب وتزوير اليوم، تعمُّ المشهد التشكيلي العراقي فوضى كبيرة، عصابات فنية منظمة تعمل بلا رحمة لنهب وتهريب ذاكرتنا البصرية، تبدأ الجريمة بشراء الأعمال من المؤسسات الحكومية بطرق غير شرعية، أو عن طريق الصدفة من العائلات التي باعت أثاثها ومقتنياتها الفنية وهاجرت، ثم تمر بتزوير وثائق لتلك الأعمال، وتهرب لاحقًا عبر الحدود بأساليب متطورة، التي لم تعد تعتمد على الحقائب الخفية كما في الماضي، بل صارت تحشر مع الشحنات التجارية المزيفة. ومن ضمن طرق التهريب، دخلت التكنولوجيا الحديثة، إذ تقوم هذه الجماعات بتزوير لوحات كبار الفنانين باحترافية مذهلة عن طريق فنانين محترفين ومعروفين. الأعمال المسروقة تباع في أشهر المزادات العالمية مثل (كريستيز) و(سوذبيز)، ويقتنيها أثرياء كاستثمار، أو كغطاء لغسل الأموال. اللوم لا يقع على اللصوص وحدهم، فالمؤسسات الفنية تتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية. حماية التراث وزارة الثقافة العراقية لا تمتلك قاعدة بيانات للأعمال، ولا تتابع المزادات العالمية لكشف القطع المسروقة، ولا يوجد خبراء فنيون في الجمارك أو المطارات. حتى المتاحف، تُخزن فيها اللوحات في بيئات غير مناسبة، ما يعرضها للتلف والضياع. لكن هناك أملًا وحلولًا، دول أخرى واجهت مشكلات مشابهة ونجحت في حماية تراثها. المغرب استعاد آلاف المقتنيات الثقافية عبر التعاون الدولي وقاعدة بيانات رقمية. المكسيك طورت نظامًا متقدمًا لتتبع القطع الفنية عن طريق الذكاء الاصطناعي، وإيطاليا أنشأت (شرطة الفنون)، التي استردت آلاف القطع المهربة. حتى فرنسا لديها قانون صارم يمنع تصدير أي عمل فني قديم دون إذن الدولة. كما قامت القاهرة، مؤخرًا، بإطلاق ذاكرة مصر الرقمية لتوثيق الآثار والفنون، ما ساعد في استعادة عشرات القطع. ذاكرة بَصَرية العراق بحاجة ماسة إلى إجراءات مشابهة. صار لزامًا إنشاء سجل وطني للتراث الفني، واستخدام تقنيات مثل (الباركود)، ثنائي الأبعاد، والرقاقات اللاسلكية لتتبع الأعمال، وتوثيق القطع بتقنيات التصوير العالي الدقة والمسح الضوئي الثلاثي الأبعاد. لدينا مئات الأعمال الفنية في الخليج، وعلى وزارة الثقافة أن تتفق مع هذه الدول لتصوير الأعمال وإنشاء معرض رقمي عراقي، إلى جانب ما تبقى من الثمانية آلاف عمل، تلك المهرّبة خارج العراق، إضافة إلى جرد الأعمال الفنية في سفاراتنا حول العالم وحمايتها، وترميمها، وتصويرها، وإدراجها في المتحف الرقمي. الأمر ليس مجرد حماية لوحات وتراث، بل إنقاذ ذاكرة أمة. الإنتربول واليونسكو يحذران من أن تدمير التراث الثقافي يُعتبر جريمة حرب، السرقة والنهب لا يمحوان ذاكرة العراق البصرية فقط، بل يمحوان الهوية والتاريخ.