100%
حميد قاسم
قبل عامين تقريبًا، رحل الشاعر الموهوب كريم العراقي عن عالمنا هذا، ليخلف في قلوب أهله ومحبيه حزنًا موجعًا، خاصة لمن عرفه وعاش معه تفاصيل الحياة اليومية بكل ما تعنيه سنوات الجمر العراقية، شعرًا وسياسة ومواقف وحروبًا لا تنتهي.
منذ الطفولة عشنا في "الشاكرية" من أعمال كرادة مريم ببغداد، حيث ولدنا وكبرنا معًا، تعمدت صداقتنا بما يشبه الأخوة حين بدأنا حكايتنا وولعنا بالشعر والسياسة مستهل السبعينيات، وكان أسبق مني في نشر الخواطر والمحاولات التي كنا نظنها شعرًا، في مجلتي (المتفرج) و(الفكاهة)، قبل أن يتعرف على صفحات بريد القراء في مجلة الإذاعة والتلفزيون، وأعني صفحة الأقلام الشابة التي ابتكرها أستاذنا سهيل سامي نادر، الذي كان يوقع باسم " مياسة"، قبل أن يترك الصفحات، واسم مياسة للكاتبة السيدة فاطمة المحسن.. ومما لا يعرفه كثيرون أن بدايات كريم الأدبية كانت مع شعر الفصحى قبل أن يتحول إلى كتابة الشعر الشعبي، ومن ثم كلمات الأغنيات، التي تخصص فيها وترك كتابة القصيدة الشعبية محلقًا في عالم الغناء.
سبقني كريم كذلك في الشهرة بقصائده الشعبية الأكثر انتشارًا وقبولًا، مقارنة بقصيدة التفعيلة والشعر الحر، فضلًا عن موهبته اللافتة وخوضه في موضوعات ساخنة في ظل وضع سياسي محتدم في طبقاته الخفية، رغم الحلاوة السطحية لشهر العسل بين البعثيين والشيوعيين بعد الإعلان عن التحالف بينهما تحت مسمى "الجبهة والوطنية والقومية التقدمية".. فكان كريم الشاعر الشاب ابن العشرين عامًا نجم حفلات التنافس الخفي الصاخبة في جمعية التشكيليين ونقابة الموسيقيين ونادي التعارف، ومهرجانات الشعر الشعبي "القطرية"، قبل أن ينهيها قانون الحفاظ على اللغة العربية بضربة مفاجئة، حين أدرك الحزب الحليف قوة وأهمية هذه الفعاليات إعلاميًا في استقطاب الشباب وترويج المبادئ اليسارية وتعاظم مد الحزب الشيوعي، خاصة في مجال الكسب الحزبي.. وهذا ما لفت أنظار الحلفاء إلى دور هذه الشاعر الشاب وتأثيره حين يعتلي المنصة بكلماته وصوته وإلقائه الانفعالي ووجهه ذي الملامح الطفولية، التي يتعاطف الجمهور معها، جنبًا إلى جنب مع شعراء بارزين سبقوه، مثل عريان السيد خلف وشاكر السماوي وجمعة الحلفي وكاظم إسماعيل الگاطع، وسواهم.
أمام المرض تداعى كل شيء، وأمام الخسارة لم يبق سوى طعم تلك الايام التي عشناها معًا ونحن نكابد أوجاع الأسى في الحياة والسياسة والحب والمواقف.. في بغداد وعمان ودبي وأماكن أخرى لا تعد ولا تحصى.. ولا شدّة أقسى من الشدة التي يواجهها صديق الطفولة والصبا والشباب والكهولة، لذا كتبت له في محنته:
كريم العراقي.. قم يا أخي كريم، هل تتذكر كم كانت أمي تحبك وتحسبك واحدًا من أبنائها..؟ قم يا صديقي فلدينا سفرة لاتحاد الطلبة إلى بهرز وربما إلى الحبانية أو سدة الهندية، ولا أحد سواك سيقرأ للزميلات والزملاء قصائد عن شيلي وثورة شيلي وبحر الدم والحب والنار، أو عن بهيجة التي قادتنا عبر جسر الشهداء.. ستبقى كريم العراقي الذي ينتظر الثوب من يدي أخته مهما كبرت يا صديقي..
لكن كريم العراقي، طيب القلب الذي عرفته قبل أكثر من نصف قرن، لم يعد جسده قادرًا على أن يعينه بعد أن استشرى الداء الوبيل فيه، لم يقم أبو ضفاف، وغادرَنا في مثل هذا اليوم، الأول من أيلول 2023 مودعًا بالأسى ودموع أهله وأصدقائه ومحبيه والمعجبين به وبشعره.. إنه نصف قرن من كتابة الشعر والأغنيات والخسارات..