تأملات في الفوتوغرافيا عند رولان بارت الصورة إعلان ناعم عن الموت

ثقافية

تأملات في الفوتوغرافيا عند رولان بارت الصورة إعلان ناعم عن الموت
100%
نرمين مظهر لم يكن كتاب (الغرفة المضيئة) لرولان بارت دراسة أكاديمية تقليدية عن التصوير، بل تأمل شخصي وحميمي في معنى الصورة، والفقد، والزمن. وعلى امتداد صفحاته، يتنقل بارت بين النظرية والعاطفة، بين المفهوم والذكرى، ليقدّم نصًا فريدًا هو أقرب إلى مرثية منه إلى أطروحة فنية. هذا الكتاب، الذي جاء في أواخر حياته، يُعتبر تتويجًا لتجربته الفكرية، وواحدًا من أكثر نصوصه شفافيةً وإنسانية. بين البنيوية والحزن عرف بارت بنقده الحاد للغة والأسطورة، وبرز من خلال كتبه الشهيرة مثل (درجة الصفر للكتابة) 1953، (ميثولوجيات) 1957، و (لذة النص) 1973. عُدّ من أبرز مفكري البنيوية، ثم صار من ناقديها، متحولًا نحو سيميائية الذات والكتابة الحسية. في (الغرفة المضيئة) نلمس هذا التحول، الكتاب لا يُبنى على منهج صارم، بل يتخلله التأمل الحر، والأثر الشخصي، والانفعال المجرّد من أدوات التفكيك. يقول في الصفحة 3 "اجتاحتني رغبة أنطولوجية، أردت، بأي ثمن، أن أعرف ما هي الفوتوغرافيا في ذاتها، وما السمة الجوهرية التي تميزها عن مجتمع الصور." وبرغم أنه كان يمكن لبارت أن يعالج الصورة من زاوية لغوية أو آيديولوجية، كما فعل في تحليله للغة الإعلانات أو النصوص الأدبية، إلا أنه اختار هنا أن "يخون" أدواته، ويكتب نصًا مفتوحًا، أشبه بالمرثية، أو بتأمل ما بعد البنيوية، حيث لا مركز، ولا يقين. والكتاب من قسمين: القسم الأول: التأمل النظري – الصورة بوصفها أثرًا، ينطلق فيه (بارت) من محاولة للإجابة عن سؤال بسيط في ظاهره: "ما الذي يميّز التصوير الفوتوغرافي عن الفنون الأخرى؟" لا يقارب المسألة من منظور تقني أو تاريخي، بل من زاوية فلسفية، إذ يرى أن خصوصية الصورة تكمن في أنها لا تقول "هذا كان يشبه الشيء"، بل تقول "هذا كان". هي إذًا شاهد وجود، لا تمثيل. ويقول في الصفحة 4 "ما تعيده الصورة إلى الأبد قد حدث مرة واحدة فقط، إنها تكرر ميكانيكيًا ما لا يمكن أن يُعاد وجوديًا." من هنا يقدّم مفهومي (استيودييوم Studium) و(بنكتوم Punctum). فالأول هو سياق ثقافي، معرفة عامة، تمنحنا إطارًا لفهم الصورة: ما الموضوع؟ من الأشخاص؟ أو ما الزمن؟ أما الثاني فهو ثقب شخصي، جرح تُحدثه الصورة فينا، دون وساطة. شيء لا يُفسر، لكنه يخز، يلمس شيئًا في الذاكرة أو في اللاوعي. يتجاوز (بارت) بهذين المفهومين حدود التحليل البصري نحو تجربة النظر بوصفها صدمة، إذ إن الصورة لا تُستقبل فقط، بل تُحدث أثرًا، تترك علامة لا تُمحى. ويشير في الصفحة 27 "البنكتوم في الصورة هو ذلك الحادث الذي يخزّني." صورة الجوهر القسم الثاني: الصورة كعزاء مكسور، يبدأ الجزء الثاني من الكتاب بفقدان، وفاة الأم. وهنا ينقلب الكتاب من نظرية إلى مرثية. يبحث (بارت) في صور والدته، لا عن "تمثيل جيد"، بل عن لحظة "صدق حميم"، عن ما يسميه "صورة الجوهر". لا يجدها في صورها الرسمية، بل في صورة قديمة تعود لطفولتها، التقطت في "حديقة الشتاء"، صورة لا يعرضها في الكتاب، وكأنها "أيقونة" شخصية لا يجوز تعريضها لنظر الآخرين. في هذه اللحظة، تتضح فكرة بارت، الصورة لا تحيي، بل تشير إلى من رحل. ليست الصورة وسيلة لحفظ الحياة، إنما إعلان ناعم عن الموت. هي توقيع على غياب مضى ولن يعود. كما يكتب في الصفحة 87 "كل صورة هي شهادة على الحضور." ويؤكد في الصفحة 97 أن "كل صورة تحمل دائمًا هذه العلامة القاهرة على موتي المستقبلي، ولذلك فهي تخاطب كلًا منا على حدة، خارج العمومية." هكذا تصبح الصورة أداة وجودية. ليست أداة فنية فقط، بل مرآة للفناء. الصورة، الضوء، والموت بعكس ما قد يوحي به العنوان، (الغرفة المضيئة)، ليست هناك مساحة للانكشاف، بل مساحة للحداد. فالتصوير، الذي يُنتج بالضوء، يُفضي إلى الظل. الصورة، في جوهرها، مشحونة بالزمن، لأنها تجمّد لحظة، لكنها أيضًا تُفككها، لتصبح بعد حين شاهد قبر بصري. ويكتب في الصفحة 78 أنه "في التصوير الفوتوغرافي، وجود الشيء (في لحظة معينة) ليس مجازًا أبدًا." ليعود في الصفحة 80 يؤكد أن "الصورة هي حرفيًا انبعاث عن المرجع." ولهذا يرى أن التصوير يختلف عن الرسم أو السينما. فالصورة الفوتوغرافية لا تخلق عالمًا وهميًا، بل تلتقط أثرًا كان واقعيًا. بهذا، تُصبح الصورة تمسكًا بما كان، أكثر من كونها وعدًا بما سيكون. بين الحميمي والسياسي بالرغم من أن الكتاب يبدو حميميًا وشخصيًا، إلا أنه لا يخلو من أبعاد نقدية ضمنية. فبارت يتحدث عن الصور التي "لا تجرحه"، تلك التي تكتفي بأن تكون تمثيلات نمطية. وهنا يعود نقده القديم للأسطورة، للإنتاج الثقافي الذي يفرغ الأشياء من معناها، ويحول الصورة إلى سلعة. يقول في الصفحة 46 "الاستيدييوم ، في النهاية، مشفّر دائمًا؛ أما البنكتوم فلا." ما يهم (بارت)، ليس الصورة الجميلة، بل الصورة الصادقة، تلك التي تحتفظ بـ "أثر الحياة"، التي تفضح مرور الزمن لا تُخفيه. الغياب الذي لا يرى مات (بارت) بعد صدور هذا الكتاب بفترة قصيرة، دهسته شاحنة بينما كان خارجًا من محاضرة. ويبدو هذا الختام المأساوي وكأنه صدى لما كتبه عن الصورة والموت. كأن الكتاب كان رسالة وداع. ليس من المستغرب إذن أن يكون (الغرفة المضيئة) نصًا يتيمًا في فكر (بارت)، فهو لا ينتمي تمامًا إلى أعماله النظرية السابقة، لكنه يحمل كل آثارها: اللغة الحذرة، والحساسية الشديدة، والشك العميق في القدرة على قول الحقيقة. لكن، برغم ذلك، يظل الكتاب شهادة على محاولة استعادة الغائب، ليس بإحيائه، بل بلمس أثره. في عصر تغمرنا فيه الصور أكثر من أي وقت مضى، يعيدنا (بارت) إلى المعنى الأصلي للصورة: أن تنظر لا لتشاهد، بل لتتذكر. ألا تكون الصورة تجسيدًا، بل أثرًا هشًا لما لم يعد. وهكذا، تظل الصورة – كما وصفها: توقيع غياب، لا وعد حضور.  

إقــــرأ المــــزيــــــــد

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال
تحقيقات

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي
تحقيقات

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي

حياة بلا تواصل اجتماعي..  هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟
تحقيقات

حياة بلا تواصل اجتماعي.. هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟
تحقيقات

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي
تحقيقات

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"
تحقيقات

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"

أبرز الأخبار

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

قصة إعدام الفنان صباح السهل

قصة إعدام الفنان صباح السهل

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج