100%
د. سلمان كويش
قالَ: "لا عليكَ"، حين أبديتُ استيائي وشكّي الكبيرين في قدرته على النجاح. أصلُ الحكاية بدأَ حين زارني جاري وصديقي "كريم" رحمه الله، وقالَ إنّه يريدُ ادّعاءَ الجنون زمن الديكتاتورية لكي يفلتَ من قبضة الجيش الخانقة.
كان محدّدًا في سؤاله: كيف أنجحُ في ادّعاء الجنون أمام لجنة من الأطباء العسكريين من ذوي الخبرة؟ قصدني لأنّه يعرفُ أنّي أكملتُ دراسة علم النفس التربوي في الجامعة المستنصريَّة. قلتُ له: يا كريم، أنا درستُ هامشًا ضئيلًا من علم النفس، درستُ ما له علاقة بسلوك الطالبِ السويّ الذي قد يضطربُ أحيانًا، ثم سرعان ما يعود للسواء. أمّا ما تريده منّي فهو اختصاصٌ عميقٌ يعرفُه أطباءُ النفس البشريَّة! كان من الواضح أنّه عزمَ على أمرٍ ما، فقال: افترضْ أنّكَ طبيبٌ نفسيٌّ، كيف تطمئنُ إلى أنّني مضطرب، ولا أصلح للجيش من النظرة الأولى؟ قلتُ له: وأنتَ ماذا تقول؟ فقال: أنا لا أعرفُ، قلْ لي أنت!
كان هذا في ليلةٍ ساخنةٍ من عام 1982، أو 1983. كانت "الحديدة حارّة"، والنظام في أوج قوّته حينها، هذا غير أنّي من "ذوي الجبناء"، التسميةِ التي كان يُجملُ بها النظامُ توصيفاته لمن كان يمتُّ بصلةٍ لمناوئيه حتى الدرجةِ الثالثة، فكيف بمَن كان "المجرم" شقيقه؟! قلتُ يا كريم (استرْ عليَّ الله يخليك)، لا طاقة لي بنظام يعدمُ لأتفه الأسباب. فقال: أنت تنتقمُ لشقيقكَ في مساعدتي!! فقرّرتُ مساعدته فورًا قدر ما أعرفُ، وأستطيعُ. سألتُه: متى موعد اللّجنة؟ فقال أظنّها الشهر المقبل. فقلت جيّد، أمامنا فرصة طيّبة لاكتمال مرضك!! وفي لقاء ثانٍ لي مع كريم قلتُ له: عليكَ ألّا تنظرَ في عيون أعضاء اللّجنة الطبيَّة حين تدخل عليهم، وأنْ تطيلَ أظفاركَ وأنْ تجعلها وسخة. اذهبْ إليهم حافيًّا. وعليكَ أنْ تبدو وسخًا وحتى قذرًا، وألا توقِفَ فركَ كفّيكَ إحداهما بالأخرى. لا تكنْ معقولًا، وتأخّرْ في الردّ على أسئلتهم، وأعطِهمْ إجابات ليست نهائيَّة، قلْ كلَّ ما يخطرُ ببالكَ، ولا تتردّدْ في شتمهم إن وجدتَ لذلك متسعًا. اشتمْهم بصوتٍ نقيٍّ واضح، واشتمْ معهم أباك أو كلّ مَن يخطر ببالكَ. ولا تستعجلِ الانصرافَ إنْ قالوا لك: اخرجْ. قالَ: شيء واحد لم أفهمه، ما معنى إعطائهم إجابات ليست نهائيَّة؟ فقلتُ وقد حاصرني سؤاله: هي إجابات لا تكتملُ إلّا بمزيد من الإضاءة، أي أنْ تجيبَ عن سؤال محدّد بفيضٍ من اللّا محدّد. افترضْ أنّهم سألوكَ عن عمركَ، وسيسألونكَ، فقلْ إنَّ خالتكَ هي التي أرضعتكَ بعد موت أمّكَ، وإنّها ربّتكَ بعناية حتى غدوتَ مراهقًا وبلغتَ الحلم، وإنّكَ لا تريدُ الموت في حرب لأنّكَ ستكسر خاطر خالتكَ. سيصيحُ بكَ أحدُهم وقد فقدَ صبره عليكَ: كم عمركَ؟ فقلْ له، وكفّاكَ تشتعلان من الفرك، إنّكَ مازلتَ صغيرًا على الموت في حرب، الحربُ أكبر منكَ، إنّها أكبر من الجميع. طريقتكَ في الجلوس مهمّة، فهي من علائم اتّساقكَ ونحن نريدكَ غير متّسق، غيِّرْ مكانَ جلوسكَ إنْ استطعتَ، استأذنهم في تغييره وقلْ لهم إنَّ كرسيكَ بلا مسند مريح للظهر حتى لو كان بمسند. وإيّاكَ أنْ يذهبَ معكَ مَن يرافقكَ، فقد يهدمُ بناءكَ كلّه بشطحة. وإنْ سألوكَ كيف عرفتَ الطريق إلينا وحدكَ؟ قلْ إنَّ الكلّ يعرفُهم، ويعرفُ أين يجلسون!! يا كريم، سيكونُ لنا لقاءٌ آخر، ثمة معلومةٌ أريدُ التأكّدَ منها، وسنكملُ غدًا.
كلُّ هذا سيبدو بلا معنًى ومُدّعًى بافتضاحٍ لو أنّ هناك تحليلًا لدمِ المجنونِ أو بولِه أو حتى لُعابِه، يثبتُ عافيتَه من عدمها. وفي اليوم التالي اتصلتُ بصديق لي أقربَ منّي للنفس البشريَّة ليجيبني عن سؤالي، فقال لا، لا وجود لمثل هذا التحليل! فذهبتُ لكريم، أنا مَن قصدتُه هذه المرّة. قلتُ له ما أنْ انفردنا: ملابسكَ، يجب أن تكونَ بلا أُلفة، بلا أيّ شكل من أشكال التنسيق. اذهبْ بدشداشة، وضعْ على رأسكِ غترة قديمة، يجب أن تتدبّرَ أمرها. وإنْ حصلَ وسألكَ أحدٌ عنها فقل إنّكَ تعصبُ رأسكَ بها كي لا ينفجر مما يضطربُ فيه. قلْ لهم إنّكَ تسمعُ أصواتَ كلاب تنبح، تتقاتلُ فيه بشراسة.
بعد مرور نحو ثلاثة أشهر، كنتُ في أثنائها أكثرَ قلقًا من كريم، قابلتُه، كان أشعثَ، مهمَلًا، ووسخًا. سألتُه: كم استغرقتِ المقابلةُ؟ فقال لا أدري، يبدو لي أنّها كانت أطولَ، أو أقصرَ، مما ظننتُ. وحين سألتُه، ما تقديركَ النهائيّ لها؟ قالَ: لم يعدْ هذا يهمّني بعد انتهاءِ الحربُ في داخلي.