100%
صفاء أنصاف
يشير بعض المؤرخين اليونانيين إلى أن الفلسفة اليونانية نقلت كتاب أرسطو طاليس (في الشعر) من العربية إلى اليونانية، بعد أن أضاعوا أغلب صفحات الكتاب، وما كان منهم إلاّ العودة لترجمة حنين بن إسحاق، وربما هناك مترجمون قبله لهذا الكتاب، ليستعيدوا أهم كتاب في تاريخ اليونان.
ربما يدعونا هذا الخبر لإعادة قراءة الفلسفة العربية وعلاقتها بالفلسفة الغربية، وتسليط الضوء على هاتين الثقافتين.
أوهام الأوربيين
منذ بدايات العصر الحديث، ساد اعتقاد شائع بأن اليونانيون استطاعوا غزو العالم بالمنهج المنطقي في التفكير، وأن لا أحد سواهم كان قادرًا على ضبط المعرفة الإنسانية واكتشاف هذا العالم وما وراءه، لكن سرعان ما تبدّدت هذه الآمال مع الوقت. لقرون طوال، وقف الأوربيون في ارتباك ما بين الإيمان بالمسيحية أو التسليم لمقتضيات العقول، وفي محاولة للهروب من هذا الارتباك، بنى توما الأكويني براهين وجود الإله على وفق ما أسّسه أرسطو، لكن طريقه اكتنفه الغموض والشك. ثم جاء باسكال، فجعل المعرفة الإيمانية متعالية على العقل، ورفض البراهين الفلسفية على وجود الله، ثم ألقى برهانه الشهير عبر مقامرة نفعية حدّد نتائجها مسبقاً لصالح الإيمان، من دون أساس منطقي يمكن الاعتماد عليه. أما كانط فسعى إلى إنقاذ ما تبقى من الإيمان الكنسي، فمنع الاستدلال على وجود الإله بالمبادئ العقلية، وحصره في المعاني الأخلاقية. مع أن كلتيهما متوافقة في الطبيعة. وهكذا، بين تقليد الأكويني ورهان باسكال، ومأزق كانط، تأرجح الإيمان الكلاسيكي، حتى جاءت صرخة نيتشه: "لقد مات الإله." كان هذا إعلان موجّه للتراث المثالي الكنسي الذي تلقّفته بحذافيره من تصوّرات.
على هذه التربة من الشك والنزاع حول قدرة العقل الإنساني على الوصول إلى الله، نضجت مذاهب الفكر الغربي بمختلف تيّاراتها، وأصبح الإيمان في أوربا مناقضًا للعلم والمعرفة.
العقل دينا
في أحد مقالاته، يشير إدوارد مونتيه إلى أن الإسلام في جوهره دين عقلاني وفق أوسع المعاني لهذا الاصطلاح، وتعريف العقلانية بوصفها نظامًا يقيم المعتقدات الدينية على مبادئ يدعمها العقل، إنما ينطبق تمامًا على الإسلام. ففي بدايات تاريخ الإسلام لم يعرف المسلمون الفلسفة اليونانية ولا غيرها، وانحصرت معارفهم في نصوص الوحي الذي أضاء لهم المعرفة بالإله، وحمى العقل بفطرته واكتماله من الخلل والتناقض.
ومن أجل عوامل سياسية وفكرية، بدأت حركة الترجمة تأخذ مجدها، حتى وصلت ذروتها في العصر العباسي، هناك في بيت الحكمة وغيره، إذ نُقلت كتب أرسطو وغيرها من كتب الفلسفة اليونانية، لكن هذا النقل لم يكن نقلًا بالحرف، بل إن أكثرهم تلقّى هذه المذاهب، وأعمل فيها مشرط النقد والتحليل، وعكفوا على دراستها وشرحها وتفسيرها، وتوضيح غوامضها. حتى أنتجوا فكرًا فلسفيًا خاصًا بهم، ولمعت أسماء عبّرت عن منطق الإسلام وفلسفته، بعيدًا عن هيمنة الفلسفة اليونانية. وبين تهافت الفلاسفة ودرء التعارض، تعرّضت الفلسفة اليونانية لحركة واسعة من النقد والتمحيص والتدقيق، حتى ذكر المستشرق الأميركي الشهير دانكن ماكدونالد أنه لم يسلم من المقولات الأرسطية من هجوم الفلاسفة المسلمين إلا في بعض المسائل اليسيرة. فقد انتشرت فلسفات المسلمين النقدية للفلسفة اليونانية والأرسطية وكثرت الشروح والنقود عليها، ودان الفلاسفة الأوربيون للفلاسفة المسلمين بالفضل في تعريفهم الفلسفة، وبدأت حركة ترجمة واسعة من العربية إلى اللاتينية، وأصبحت أعمال فلسفية، كأعمال ابن رشد وأبي حامد الغزالي، جزءًا لا يتجزّأ من تاريخ النهضة الفلسفية في أوربا.
المسلمون وإلهامهم
في وقت كانت الفلسفة الأوربية تقف في طريق المعرفة الذهنية، وتحكم العقل، وتمنعه من الاستدلال على وجود الخالق عزَّ وجل، ظهرت كتابات مبكّرة كثيرة عند علماء المسلمين تضبط المعرفة العقلية للإنسان. وفي حين كان الأسقف جورج باركلي ينكر وجود العالم الخارجي، وينتهي إلى أن الإله لا يتعدى وجوده سوى الوجود الذهني، كان الإمام أحمد، قبل باركلي بقرون، قد فنّد هذه الخيالات العقلية في محاوراته مع الجهمية. وجاء الطبري بعده وضبط المعرفة العقلية في كتابه (التبصير في معالم الدين). وفي وقت كان ديكارت يؤسّس، في منهجه الشكّي، كان الغزالي قبله بما يناهز الستّة قرون، قد فنّد هذه الحالة المرضية وحلّل تلك النظريات الفلسفية التي كانت كسيحة ومشوّهة أمام العقائد الكلامية الإسلامية، ولا يمكن لها أن تنافس الدقّة المتناهية لاستنتاجات المسلمين.
استطاع الفلاسفة المسلمون أن يقدّموا للفكر الإنساني الفلسفة اليونانية، مع شروح مفصّلة لها، لم يسبقهم إليها أحد من المفكرين، وقدموا لهم معها ذخيرة من النقد والتمحيص. أما اللاهوتي المسيحي وليام لينكريك، فلا تكاد تخلو مناظراته مع الملاحدة من استحضار براهين الإمام الغزالي إلى جانب التسلسل الزمني ودليل الإمكان.
وهكذا، بخطوات عاقلة راسخة، نقل العلماء المسلمون ميراثًا واسعًا من فلسفات الأمم السابقة، مصحوبًا بميراث أوسع من الشرح والنقد والتفنيد. وفوق هذا وذاك صرح من المعرفة الإسلامية المتكاملة التي بدأتها عقول العلماء المسلمين، لتشمل جوانب العلم والمعرفة، وتوافق العقل والفطرة والإيمان، مستفيدين من تراث الأمم الإنسانية، ومسترشدين بهداية تراثهم الإنساني.