100%
صالح الشيباني
في عالمنا اليوم، كثير من الشخصيات البارزة التي أسهمت في تشكيل فكر ومجتمع العراق جرى التعتيم على سيرتها لعقود طوال، بفعل الديكتاتوريات والأنظمة الفاشية، التي حرمت التاريخ من تسجيل فضائلها ومآثرها.
معرفة هؤلاء العلماء والفقهاء ليست مجرد استحضار لذكرى الماضي، بل هي إعادة لقراءة الذاكرة الوطنية، وفهم القيم والمبادئ التي أرساها أجدادنا، والتأكيد على أن الحضارة لا تُبنى إلا بمعرفة من أسهم فيها وصاغ معالمها.
في هذه الجولة الوثائقية المصورة، نسلط الضوء على حياة العلّامة الفقيه الحاج محمد صالح الشيباني، الذي بالرغم من صمته الطويل في السجلات الرسمية، بقي نور علمه وفضله متوقدًا في نفوس من عرفوه، ليكون مثالًا على الدور الكبير الذي يمكن للفرد أن يلعبه في تربية الأجيال وإثراء المجتمع بالعلم والخلق.
ممثل المرجعية
قبل ستين عامًا، رجعت نفسه المطمئنة إلى ربها راضية مرضية، لتقطف ثمار ما زرعت في الحياة الدنيا من فضائل ومآثر وقيم، أما جسده فكان محمولًا في تلك الظهيرة الساخنة من يوم الثامن عشر من شهر آب عام 1965م على أكتاف محبيه وعارفي فضله من سكان قرية الهويدر، الذين أصروا على تشييعه مشيًا على الأقدام لمسافة خمسة كيلومترات من داره في القرية المذكورة وحتى حسينية الإمام السيد عبد الكريم المدني في بعقوبة، مركز محافظة ديالى. إنه العلّامة البارع والفقيه المجتهد الحاج محمد صالح الشيباني، الذي كان ممثلًا للمرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف وناطقًا باسمها للفترة من عام 1915م ولغاية عام 1965م.
النسب والأوصاف
ولد الفقيه الحاج محمد صالح الشيباني في قرية الهويدر عام (1319هـ - 1892م)، وهو نجل الوجيه الحاج محمد بيك بن الحاج محمد صالح آغا بن الحاج عباس بن الحاج أيوب بن الحاج إسماعيل بن الحاج خضر بن الحاج حمزة بن بدر الدين بن الصدر رضي الدين بن الصدر شرف الدين بن الصدر شمس الدين الشيباني، الذي عاش (بحسب مخطوطة قديمة للدكتور طلعت الشيباني وزير التخطيط عام 1959 في الربع الأخير من القرن التاسع الهجري (874هـ - 1469م).)
وينتسب الفقيه العلّامة الشيخ محمد صالح إلى قبيلة بني شيبان العريقة، التي كان لها دور بارز في التاريخ العربي قبل ظهور الإسلام وبعده.
وبحسب الدكتور عبد الحليم، نجل آية الله العظمى السيد عبد الكريم المدني، فإن الفقيه الحاج محمد صالح الشيباني كان يحرص على ارتداء الملابس التي يرتديها العلماء والأعيان والوجهاء في الربع الأول من القرن العشرين: الثوب الداخلي الأبيض، ثم الصاية وفوقها الجلباب ثم العباءة التقليدية، يعلو رأسه نوع من العمائم التي يطلق عليها الكشيدة (وهي من أغطية الرأس التي تشبه الطربوش ويرتديها العلماء والوجهاء)، يميل لونها إلى حمرة قاتمة ويُلف على حافتها المحاذية للرأس قماش سميك يميل إلى الصفرة، مطرز بخيوط من نفس اللون يبلغ عرضه عشرة سنتيمترات.
دروس ومفاهيم
تشير مخطوطات قديمة إلى أن الفقيه الحاج محمد صالح الشيباني حضر جانبًا من دروس آية الله العظمى المولى محمد كاظم اليزدي (صاحب العروة الوثقى)، فنهل على يديه الأصول اللفظية، ثم درس شيئًا من البحث على يد الإمام الشيخ الميرزا محمد حسين النائيني، الذي عُرف بمرجع أهل التقوى والصلاح، ودرس الأبحاث الأصولية على يد آية الله العظمى السيد أبي الحسن الموسوي الأصفهاني، الذي امتدت مرجعيته إلى أغلب دول العالم الإسلامي، وحضر بحث المرجع الديني الأعلى آية الله الشيخ الأجل محمد رضا آل ياسين، وجانبًا من دروس آية الله العظمى السيد محمد علي الحسيني الشيرازي، الذي كان أستاذًا وفقيهًا في الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة، ثم لازم المرجع الأعلى آية الله العظمى زعيم الحوزة العلمية في النجف الأشرف السيد عبد الهادي الحسيني الشيرازي، ليرتشف من ينابيعه المتدفقة علم المعقول والفقه.
الشيخ الأسدي يتذكر
يقول الشيخ عبد الرزاق فرج الله الأسدي، ممثل المرجعية الدينية في محافظة ديالى حاليًا: في بداية محرم الحرام سنة (1393هـ - 1973م) دخلتُ قرية الهويدر، وكان مقر إقامتي في بيت العلّامة الفقيه الشيخ محمد صالح الشيباني، وفي ركن تلك الغرفة التي أقيم فيها، شاهدت صورة فوتوغرافية معلقة لهذا الشيخ الجليل، تلوح من خلالها قسمات وجهه الصبوح، وترتسم على محياه ابتسامة هادئة وقورة، وفي عينيه بريق الهدى والصلاح، وفي تجاعيد وجهه انعكاس لما كان يحمل من هموم الرسالة والواجب الذي أنيط به في أهل هذه البلاد، فعرفت منذ تلك اللحظة أن صاحب هذا المنزل كان من العلماء الفضلاء.
ويضيف الشيخ الأسدي: ما إن مضت أيام على إقامتي في هذه القرية، حتى قرأت على ألسنة شيوخها الكبار هذا التاريخ المتألق علمًا وفضلًا وسماحة، ومواقف لا تندثر مع الأيام.