100%
عامر جليل إبراهيم
مع اختيار بغداد عاصمةً للسياحة العربية لعام 2025، تتجه الأنظار إلى إرث العراق العريق بمكوناته المتعددة، وأبرزها الأماكن الدينية والتاريخية التي تختزن حكايات الأديان والحضارات، ومن بين تلك الشواهد، تبرز الكنيسة الخضراء في تكريت كمعلم أثري وديني عريق، لا تزال أطلاله شاهدة على تاريخٍ من التسامح والتعايش.
بصمة روح
"الشبكة العراقية" زارت هذا الموقع الأثري ضمن سعيها للتعريف بالمواقع الدينية والأثرية والتراثية، بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة السياحة العربية لعام 2025، والتقت الدكتور حارث جاسم السامرائي، مدير موقع الكنيسة، ليحدثنا قائلًا: "على ضفاف نهر دجلة، وفي الجانب الجنوبي الشرقي من مدينة تكريت، كانت تقوم شامخة كنيسة القديس مار أحودامه، المعروفة بالكنيسة الخضراء، التي يعود تاريخ بنائها إلى سنة 700 ميلادية."
وأضاف: "بُنيت على طراز العمارة السريانية، لتكون مركزًا روحيًا للطائفة السريانية الأرثوذكسية، واحتضنت لقرون طوال المجالس الدينية والمناظرات الفكرية، في زمنٍ كانت فيه تكريت مدينةً للتنوع والانفتاح." موضحًا أن الكنيسة أُسست تخليدًا لاسم القديس مار أحودامه، أحد كبار رجال الدين السريان، ودُفن فيها لاحقًا كبار الأساقفة، مثل دنخا الثاني وأثناسيوس التكريتي، ما جعلها مركزًا لبطاركة المشرق الأرثوذكس.
عصور المحن
وأوضح السامرائي: "مرت الكنيسة بعصور من المحن. ففي عام 1089م، تعرّضت للنهب، قبل أن تُرمم سنة 1112م. ثم جاءت نكبة المغول عام 1258م، فالتجأ إليها المسيحيون هربًا من المجازر، غير أن كثيرًا منهم قُتلوا داخلها، لتتحول من رمز سلام إلى شاهد على مأساة. وفي القرن الرابع عشر، أمر تيمورلنك بتدمير ما تبقى من الكنائس في تكريت، منهيًا بذلك مرحلة مشرقة من الحضور السرياني المسيحي في المدينة."
وعن أبرز الاكتشافات التي عُثر عليها في الكنيسة، يروي السامرائي قائلًا: "في تسعينيات القرن الماضي، قامت هيئة الآثار والتراث العراقية بعمليات تنقيب كشفت عن توابيت حجرية، وصلبان منقوشة بالسريانية، وشواهد قبور تعود لرجال دين مرموقين. وكان من أبرز الاكتشافات تابوت الأسقف أثناسيوس. وفي عام 2000، بدأت محاولة لترميم الكنيسة، لكنها لم تكتمل. وفي عام 2014، دمّر تنظيم داعش الإرهابي الكنيسة بالكامل، ضمن حملة ممنهجة في محاولة بائسة لمحو ذاكرة العراق الثقافية والدينية."
الإغلاق العسكري
وأثناء تجوالنا، رافقنا الأستاذ مهند محجوب تركي، مسؤول إعلام آثار وتراث صلاح الدين، ليحدثنا عن هذا المعلم الأثري المهم بالقول: "تقع الكنيسة داخل مجمع القصور الرئاسية السابق، الذي تحوّل اليوم إلى منطقة عسكرية مغلقة، ما أعاق أي تحرك ترميمي أو بحث أثري جديد، ولا تزال النداءات قائمة لإخراج الكنيسة من هذا الطوق الأمني، لكن دون استجابة تُذكر، ما يجعلها أسيرة الإهمال والصمت."
ويضيف: "الكنيسة الخضراء ليست مجرد حجر أو أطلال، بل هي هوية حضارية روحية تعبّر عن التسامح والتنوع، لذا فالحفاظ على ما تبقى منها هو واجب ثقافي وإنساني، خاصة في ظل توجه العراق لإبراز معالمه السياحية والدينية للعالم العربي". مضيفًا: "آن الأوان لأن تُدرج هذه الكنيسة ضمن مشاريع إعادة الإعمار، وأن يُطالب بتسجيلها في قائمة التراث العالمي لليونسكو، لما لها من رمزية روحية وتاريخية لا تعوّض."
وفي الختام، عاد لنا الدكتور السامرائي ليختم حديثه بالقول: "الكنيسة الخضراء في تكريت لم تعد كما كانت، لكن تاريخها لا يزال حيًّا في وجدان من يعرف قيمة التنوع الديني في العراق، إنها بحق صوت الحضارة في وجه الخراب، وصورة للتاريخ الذي قاوم النسيان، وإنقاذها واجب وطني، لأنها ليست لطائفة، بل هي ذاكرة الشعب كله."