100%
عبد المنعم الأعسم
الطبيب الجراج الألماني الشهير (بيتر فايكوتشي) يلفت النظر إلى أنه، في كل مرة يتتبع أعصاب الإنسان وشرايينه، لا يجد أثرًا للضمير.
ويتساءل: "ترى هل نحن من دون ضمائر، وهل ضمائرنا مخفية في مكان ما؟" وكان هذا مدخلًا لبحوث عن سلطة الضمير في الإنسان: أشكال ظهوره وحالات استتاره.
القاعدة الجنائية التقليدية تقول "كل ما هو متخفٍ عن الأنظار مريب." وقد يحمل مخالفة، أو ذنبًا ما، فلو لم يكن مذنبًا ما الداعي إلى تخفّيه؟ والضمير المستتر، المريب، لا يوخز صاحبه ولا يردعه عن الإيذاء، ويكف عن أن يكون قاضيًا داخليًا للإنسان، ويحتاج، لكي يكون بريئًا، بحسب ألبير كامو، إلى اعتراف. العمل الفني (يضيف كامو) هو اعتراف على نحو ما، إذ إنه لا يمنعنا من فعل الخطيئة، حتى مع يقظته، لكنه، أحيانًا، يمنعنا من الاستمتاع فيها.
لكن السؤال الاستباقي الذي شغل المفكرين يتعلق بمعنى الضمير نفسه. قاموس (لالاند) المعتمد في المصطلحات الفلسفية، يعرّف الضمير بأنه "خاصية العقل في إصدار أحكام معيارية تلقائية." أما اللاهوتيات فإنها تقربه من الوجدان.
وفي النتيجة، هو الصوت الداخلي، المتحيّز إلى العدالة، حتى لو كانت باهظة التكاليف على صاحبه. فيما المطالعات البلاغية، مثلما هي علوم النحو، توزع الضمير بين ما هو ظاهر وما هو مستتر. الضمير في اللغة العربية هو "من الأدوات الرابطة لأجزاء النص، يقوم مقام اللفظ الظاهر، يُغني عن تكراره، فيربط آخر الكلام بأوله." وفي سياقات أخرى، قد يُقصد به الوعي الأخلاقي الداخلي للإنسان الذي يميز بين الصواب والخطأ، إذ يعمل كقاضٍ داخلي ورقيب على الأفعال والأقوال، مستندًا في قوته وضعفه إلى عوامل التربية، والعلم، والبيئة الاجتماعية، والوازع الديني. هو، في الأخلاقيات، صوت داخلي يوجه الإنسان نحو الطريق الصحيح، ويحذره من السلوكيات الخاطئة، كما يعزز القيم الأخلاقية ويسهم في بناء مجتمع صالح.
إلى ذلك، تقلل علوم السياسة من مكانة الضمير حين يتعلق الأمر بالمصالح، وتجسد ذلك (التقليل) في خواتم الحروب العظمى.
يومها، في نهاية الحرب الكونية الأولى، أبلغ (مترنيخ)، مهندس الصفقات التي تجري من وراء الظهور، وتحت الطاولة، تجمعًا للأخلاقيين النمساويين بالقول: "لا تشغلوا أنفسكم.. نحن لا نستعمل ضمائرنا عندما يتعلق الامر بالحلول الوسط، بل لا نستعملها في أغلب الأحيان." الأمر الذي عبّر عن تغييب الضمير عن محافل تتقرر فيها مصائر البشرية، وتشجيع إخفائه عن المعاملات والعلاقات بين البشر، ليصبح مستترًا، أو قابلًا للبيع مثل أية سلعة.
وفي تقرير له من ساحة الحرب في البوسنة العام 2003 حين تداخلت خطوط المواجهة بعضها ببعض بين المحاربين المحليين، قال (جاك باول كلاين)، رئيس البعثة الدولية آنذاك: "حتى الآن لا نملك مصدات وضعية تمنع عملية بيع وشراء الضمائر، ولا إمكانية لتعيين السبل التي تتم فيها، فقط حين يسقط ضحايا." وفي كتابه (دين الفطرة) يعالج الفيلسوف الفرنسي (جان جاك روسو) موضوعة الضمير، الحي والميّت والظاهر والمخفي، وإذْ يتوقف عند (سلطة الضمير)، فإنه ينعى دور الضمير المستتر حين نرتكب المعاصي "فلا يوبّخنا إلا توبيخًا خفيفًا."