حسن العاني/ منذ عصور موغلة في القدم عرفت البشرية التكريم – وهذه المفردة من اشتقاقات الكرم – وأصبح واضحاً لدينا، بعد مرور آلاف السنين، أن التكريم مصطلح يُراد به مكافأة شخص أقدم، أو جماعة أقدمت، على عمل إيجابي، لكنه في سمتهِ العامة يبقى أوسع وأشمل، فقد تقوم الدولة، أو إحدى المؤسسات أو المنظمات، بتكريم شاعر – يستثنى شعراء السلاطين – أو فنان أو عالم أو طبيب أو مهندس أو رياضي أو عامل ...الخ، من باب الاعتراف بمنجزه وتقديره. ويخطئ من يظن أن قيام الزوج بشراء قلادة ذهب لزوجه هو نوع من الحب أو التكريم، فالوقائع تشير إلى أن نسبة 99.9% من هذه التكريمات الزوجية لا تعدو عن كونها نفاقاً، أو محاولة لاسترضاء الزوجة والتخلص من نقنقتها اليومية، لأن حظها ليس مثل حظ الزوجات المدللات!! على أية حال، يحدثنا التاريخ العربي قبل الإسلام عن أشخاص اشتهروا وذاع صيتهم بسبب كرمهم الاستثنائي الذي يمكن وصفه بالخارق، وربما كان أكثرهم صيتاً وشهرة هو حاتم الطائي، الذي لو قام بذبح حصانه، في أيامنا هذه، إكراماً للضيف – كما تقول الرواية التراثية – لوجّهتْ إليه جمعيات الرفق بالحيوان أقسى التهم، ولوضعته مؤسسات الطب النفسي تحت الرقابة والعلاج!! نحن ذرية الطائي الصالحة ما زلنا أوفياء لجدنا، وما زلنا مهووسين بخصلة الكرم. تحضرني في هذا المجال حادثة طريفة، فقد كنت في عام يعود الى تسعينيات القرن الماضي في جولة صحفية برفقة الزميل حميد عبد الله، للكتابة عن إحدى نواحي محافظة (ذي قار) لمصلحة مجلة (الف باء)، وبعد أن انتهينا من المهمة، تولى مدير الناحية (أعتذر عن ذكر اسمه) تكريمنا تكريماً غريباً، وهو (بعير) لكل واحد منا، فشكرناه واعتذرنا عن قبول الهدية، وكنا كلما ازددنا اعتذاراً، ازداد إصراراً على قبولها، وقد اقترحت على زميلي أن نأخذ البعيرين ونركبهما ونعود إلى بغداد، ونوفر أجرة الطريق و ... وتعالى ضحكنا قبل الاتفاق على الهرب بأسرع وقت، وهكذا غادرنا الناحية بطريقة تليق بمجرمين هاربين من وجه العدالة!! هؤلاء هم نحن أحفاد الطائي، نرغم ضيفنا مثلاً على تناول الطعام أكثر من طاقته، ولا نبالي لو جرى نقله إلى المستشفى، وما زلنا نكرم العزيز علينا بإحدى بناتنا او شقيقاتنا، وكأنها كيلو بقلاوة أو علبة ماكنتوش، والأغرب من ذلك كله يوم انتقلت هذه الصفة من الشعب إلى الحكومة التي باتت تكرم موظفيها، الذين سطوا على رواتب الأيتام والأرامل، وذلك بإعفائهم من أية مساءلة قانونية، أو تكريم المقصر بترقيته ونقله الى مركز وظيفي أعلى، و.. ومن يدري ماذا يخبئ المستقبل، فقد تتصاعد نوبة التكريمات وتقوم الدولة بتوزيع شقق سكنية على أشقائنا وأصدقائنا مواطني الكويت مثلاً وتركيا وإيران والصين وأميركا، وربما تقوم مثلاً بما هو أدهى وأمرّ وأغرب كأنْ (عفواً المثال لا يصلح للنشر)!!
