عبد المنعم الأعسم
بالصوت المنغم الشجي، تدور الأم حول طفلها فيصير طيفًا وينام. وبأثر الصوت المُغنّى، تستوفز الطيور شدوها، وتداري خوفها، فتنط مثل طفلة سعيدة، أو تشدو. وإلى ذلك الصوت الساحر تمد الجِمال آذانها فتستسلم للحادي، وإليه تأتي أجناس السمك النادرة فتدخل حظائر الصيد مسحورة.. وبالصوت المغنى يدخل الرعب روع الأسود.. وكما يقول أرسطو إن "الأيائل تصاد بالصفير والغناء، هي لا تنام ما دامت تسمع ذلك من حاذق الصوت." أما الكبار ممن شبّوا على مساومة العاطفة والخيال، فقد شغلوا بالغناء من عهد قديم، وقيل إن فيثاغورس افتتح ملكوته بالاكتشاف العبقري، الغيتار، وإن أرسطو طاليس عقد شتاته لأول مرة على الأرغن العجيب، أما بطليموس فقد استدرج اللحن إلى قواعد وضوابط قبل أن يستطرد في الإثارة وتحرير النوازع من ربقة المنطق. وقد وضع ابن عبد ربه في "العقد الفريد" مفهوم "الصوت الحسن" في إشارة إلى الغناء متسائلًا "هل خلق الله شيئاً أوقع بالقلوب، وأشد اختلاسًا للعقول من الصوت الحسن؟" وأضاف قائلًا: "صنعة هذا الصوت هي مراد السمع ومرتفع النفس وربيع القلب ومجال الهوى، ومسلاة الكئيب وأنس الوحيد وزاد الراكب." وقبل الجميع بكثير قال أفلاطون: "مَن حَزن فليسمع الأصوات الطيبة، فالنفس إذا حزنت خمد نورها، وإذا سمعت ما يطربها اشتعل منها ما خمد." ويختزل الصوفي، الشيخ السهروردي، في "عوارف المعارف" وجاهة التغني بأطروحة فلسفية عميقة بقوله: "ماذا ينكر من محب تربى باطنه بالشوق والمحبة، ويرى انحباس روحه الطيارة في مضيق قفص النفس الأمارة، يمر بروحه نسيم أنس الأوطان، وتلوح له طوالع جنود العِرفان، وهو بوجود النفس في دار الغربة يتجرع كاس الهجران، يئن تحت أعباء المجاهدة، ولا تحمل عنه سوانح المشاهدة، فيتروح بنفس الصعداء، ويرتاح باللائح من شدة البرحاء، ويقول مخاطبًا النفس: أيا جبلي نعمان بالله خليًا / نسيم الصبا يخلص إليْ نسيمها وفي كتاب "الأحياء" يقول الغزالي: "من الأصوات ما يفرح، ومنها ما ينوّم، ومنها ما يضحك ويطرب، ومنها ما يُستخرج وزنها باليد والرِجل والرأس.." حتى قيل: "من لم يحركه الربيع وازهاره، والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج، وليس له علاج." وذهب الجاحظ إلى القول: "أمر الصوت عجيب، وتصرفه في الوجوه عجيب. فمن ذلك أنّ منه ما يقتل كصوت الصاعقة، ومنه ما يسر النفوس حتى يفرط في السرور فتقلق حتى ترقص، وحتى ربما رمى الرجل بنفسه من حالق." على أنه ليس ثمة ما يرتبط بـ "الغناء" لدى العرب أكثر من ارتباطه بكل من الشعر والمرأة.. "الأول" لبداهة الإيقاع ومنزلة القصيدة في الوجدان العربي بدلالة اهتمام الخليل بن أحمد الفراهيدي، عالم العروض، الذي ألف كتابًا عن الألحان من زاوية صلتها بموسيقى الشعر، وكان أحدهم قد سأل الشاعر أرطأة، وقد بلغ المائة من عمره: "ما بقي من شعرك؟" فأجاب: "ما أطرَب ولا أغضَب، فمن أين يأتيني الشعر؟" وذهب الجاحظ بهذا الصدد إلى القول: "العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة." فيما عرض الأصمعي واحدًا من فنون الترويج لأشهر أغنية في ذاكرة العرب: قل للمليحة في الخمار الأسود/ ماذا صنعتِ بزاهد متعبدِ.