100%
كولر الداودي
في قلب مدينة السليمانية، يقف متحف الآثار شامخًا، شاهدًا على آلاف السنين من التاريخ الإنساني. ليس مجرد مبنى لعرض مقتنيات قديمة، بل كتاب مفتوح يروي فصول أعظم حضارات العالم، من الرقيم الطيني الذي يروي حلم كلكامش، إلى العملات الإسلامية المزخرفة. ويعد المتحف ثاني أكبر صرح أثري في العراق بعد المتحف الوطني في بغداد، ووجهة للباحثين والمهتمين بتاريخ وادي الرافدين من مختلف أنحاء العالم.
أسرار الأزمنة
ما يميز متحف السليمانية، ثراء مقتنياته وتنوعها. مدير المتحف هاشم حمه أوضح في حديثه لـ"الشبكة العراقية" أن المتحف يضم نحو 70 ألف قطعة أثرية تغطي فترات زمنية تمتد من عصور ما قبل التاريخ وحتى العهد الإسلامي، مضيفًا:
"هذا التنوع يجعل المتحف نافذة واسعة لفهم تاريخ المنطقة. نعتبر الرقيم الطيني الذي يحتوي على جزء من ملحمة كلكامش جوهرة المتحف، إلى جانب التماثيل السومرية والآشورية والأختام الأسطوانية والألواح المسمارية، إضافة إلى آثار اللولوبي التي نشأت في جبال السليمانية."
يشدد مدير المتحف على أن حماية الآثار أولوية، إذ يعمل مع بعثات تنقيب محلية ودولية لتوثيق كل قطعة وحفظها. أوضح حمه: "لا نريد للمتحف أن يكون مجرد قاعة عرض، بل مركز للتعليم والبحث. نحن نقيم معارض دورية للتعريف بالتراث المحلي، وأدعو الشباب إلى زيارة المتحف والتعرف على تاريخ أجدادهم، فهذه القطع ليست حجارة أو معادن، بل قصص عن هويتنا التي يجب أن نفتخر بها ونحافظ عليها."
ذاكرة مدينة
من جانبه، يرى الكاتب والباحث الثقافي شيركو محمود أن المتحف يتجاوز كونه مكانًا للعرض: "هو ذاكرة مدينة كاملة، كل حجر فيه يحكي قصة من تاريخ كردستان والعراق. أشعر عندما أتجول في قاعاته أنني أقرأ كتابًا مفتوحًا عن حضارتنا. دوره لا يقتصر على السياحة الثقافية، بل هو مركز للمعرفة والبحث، وعلى الجامعات والمثقفين أن يستفيدوا منه أكثر."
المتحف يستقبل باستمرار زوارًا من مختلف المدن العراقية والأجنبية، ولكل منهم انطباعه الخاص.
سناء محمد، زائرة من بغداد، تقول: "ذهلت حين رأيت الرقيم الطيني الخاص بملحمة كلكامش. كنت أسمع عنها فقط في الكتب، لكن رؤيتها أمامي جعلتني أشعر أنني أعيش لحظة من التاريخ الحي."
أما علي حيدر، من دهوك فقال: "ما أعجبني هو طريقة العرض والتنظيم. لم أتوقع أن أجد هذا الكم من الآثار في السليمانية، وشعرت بالفخر أن هذا الإرث جزء من هويتنا."
في حين تحدث آكو رسول، موظف من السليمانية: "المتحف يمثل جزءًا من هويتي. منذ الصغر نعرف أن تاريخ وادي الرافدين مرّ من هنا، وزيارتي له جعلتني أفتخر أن مدينتي تحتضن هذه الكنوز."
شيماء أحمد، من كركوك، المقيمة في السليمانية، تعمل في قسم العملات القديمة، أشارت الى أن ما شدّها في المتحف، هو تاريخ التبادل التجاري والحياة اليومية. مضيفة: "شعرت أنني عدت بالزمن مئات السنين."
شهادة دولية
أما البروفيسورة آن كاثرين من جامعة أوكسفورد، التي تعمل ضمن بعثة تنقيب في كردستان، فقالت:
"متحف السليمانية من أغنى المتاحف في الشرق الأوسط، وهو مركز مهم لدراسة تطور الحضارة منذ فجر التاريخ حتى العصور الإسلامية. لا يقتصر دوره على عرض القطع الأثرية، بل يروي قصة متكاملة عن الإنسان في هذه المنطقة. وجود الرقيم الطيني لملحمة كلكامش له قيمة عالمية، لأنه يمثل جزءًا من التراث الإنساني المشترك."
متحف السليمانية لا يكتفي بعرض مقتنيات محفوظة خلف الزجاج، بل يقدّم سردية متكاملة عن الإنسان في وادي الرافدين، عن حكايات الطين والحجر والمعدن التي صاغت هوية حضارة كاملة. هو جسر يصل بين الماضي العميق والحاضر المتعطش للمعرفة، ومكان يؤكد أن الآثار ليست ملكًا لمدينة أو قومية بعينها، بل إرثًا مشتركًا لكل العراقيين، وذاكرة إنسانية تلهم الأجيال المقبلة.