100%
زياد جسام
بغداد لا تقوى على السكون، نشاطاتها الثقافية والفنية مستمرة، ليالٍ حافلة بجلسات الشعر والأدب والسينما والمسرح.
واحدة منها شهدت (مؤتمر المثقفين العراقيين الوطني الأول)، الذي أقامته (مؤسسة بابل العالمية للثقافات والفنون) تحت شعار (من بغداد إلى بغداد)، الذي أقيم برعاية من رئيس مجلس الوزراء، وافتتحه وزير الثقافة والسياحة والآثار، الدكتور أحمد فكاك البدراني، بحضور عشرات المبدعين العراقيين من داخل الوطن وخارجه.
المؤتمر الذي انعقد على مسرح الرشيد، قرأ (البدراني) فيه كلمة الافتتاح ، نيابة عن رئيس مجلس الوزراء، مؤكدًا فيها على أن المثقفين العراقيين يشكلون الركيزة الأساسية في بناء الوعي الوطني، وترسيخ الهوية الثقافية.
مشيدًا بدورهم التاريخي في إثراء الفكر العربي والعالمي، بالأدب والشعر والفلسفة والترجمة والفنون، موضحًا أن المثقف، وبالرغم مما مر به الوطن من أزمات، كان على الدوام صوتًا للحرية والعقل والإبداع، مدافعًا عن القيم الإنسانية بروح لا تعرف الانكسار.
ذاكرة ثقافية
لم يكن هذا المؤتمر فعلًا تنظيميًا فحسب، بل استعادة رمزية لذاكرة العراق الثقافية، وفرصة لإعادة جمع شتات المبدعين تحت خيمة الوطن.
من هنا اكتسبت مبادرة مؤسسة بابل معناها الأعمق، إذ مثلت خطوة عملية نحو ترميم العلاقة بين المثقف والوطن، بعد سنوات من الاغتراب الجسدي والروحي لعشرات المثقفين، الذين غادر أغلبهم العراق زمن الديكتاتورية.
مدير مؤسسة بابل، الشاعر علي الشلاه، عبّر في كلمته عن هذه الفكرة قائلًا: إن "أول مؤتمر للمثقفين العراقيين أقيم قبيل سقوط الدكتاتورية في لندن، وأشرف عليه الشاعر نبيل ياسين، والثاني أقيم في عمّان بإشراف إبراهيم الزبيدي، وكان غالبية الحضور فيهما من خارج الوطن. أما الثالث فقد أقامته وزارة الثقافة، مطلع سقوط الدكتاتورية، برئاسة مفيد الجزائري، أول وزير ثقافة بعد التغيير، لكنه انعقد في ظروف صعبة، إذ لم يكن الحضور الخارجي فيه كبيرًا.
واليوم يأتي هذا المؤتمر ليكمل تلك المسيرة، لأن العلامة الأولى لعودة الأوطان هي عودة مثقفيها، لا ساستها. "
وأكد الشلاه أن الثقافة العراقية كانت، وما تزال، الرئة التي يتنفس بها الوطن، على الرغم من الحروب والحصارات والمنافي.
مضيفًا أن المؤتمر جاء "ليجسّر الهوّة التي أوجدتها الدكتاتورية بين الكلمة الحرة وصاحبها."
حوارات مفتوحة
ما يميز هذا الحدث أنه لم يقتصر على بغداد وحدها، بل امتدت فعالياته إلى الموصل والبصرة، ليعيد توزيع الضوء الثقافي على مدن العراق كافة، مؤكدًا أن الثقافة لا تعرف المركزية، بل تتنفس بتعدد الأصوات والأمكنة.
شاركت في المؤتمر نخبة من المثقفين العائدين من المنفى بعد غياب طويل، وهم يحملون معهم خبراتهم ورؤاهم لبناء جسور جديدة بين العراق والعالم.
وشهدت جلسات المؤتمر حوارات مفتوحة حول مسيرة الثقافة العراقية، من زمن الدكتاتورية إلى الحاضر، إذ تحدث الدكتور عبد الحسين شعبان عن "الثقافة العراقية في الرئة الأخرى." بينما قدّم الدكتور نوفل أبو رغيف ورقة بعنوان "الثقافة العراقية بعد الدكتاتورية." وشارك النحّات أحمد البحراني بقصة فنية مؤثرة تحت عنوان "التحليق عاليًا"، في إشارة إلى إصرار الفن العراقي على تجاوز الانكسار. كما تضمنت الجلسات، على مدار أيام المؤتمر الأربعة، كلمات وقراءات شعرية لعدد كبير من الأدباء والفنانين، من بينهم علي بدر، وسلطان الخطيب، وعلي عبد الأمير عجام، وهدية حسين، وعواد ناصر، وعبد الحميد الصائح، وغريب إسكندر، وإيناس فيليب، ونصيف الناصري، ومهدي النهيري، وصلاح حسن، وريم قيس كبة، وجمعة عبد الله مطلك، وفاضل ثامر، وعلي الفواز، ومحسن الرملي، ومحمد خضير، وكاظم الحجاج، وعبد الهادي سعدون، وغيرهم العشرات.
توقيع جديد
لم تخلُ الفعاليات من اللمسة الجمالية التي تمنح الثقافة نكهتها الإنسانية، فقد تضمن المؤتمر عروضًا موسيقية للموسيقار يوسف عباس، والموسيقار مصطفى زاير، إلى جانب قراءات شعرية، ومعارض تشكيلية، جسدت تنوع المشهد الفني العراقي وثرائه.
إن انعقاد مؤتمر المثقفين العراقيين، بعد كل هذه العقود من الشتات، هو بمثابة توقيع جديد لعقد المواطنة الثقافية.
فهو لا يستحضر الماضي فحسب، بل يؤسس لمستقبل يشارك فيه المثقف بفاعلية في بناء الوعي الجمعي، وصناعة السلام الداخلي.
جاء المؤتمر ليؤكد أن "الثقافة ليست ترفًا، بل ضرورة للبقاء، وأن المثقف، وهو يواجه العنف والخراب واليأس، يظل المبشر الأول بولادة وطن جديد، أكثر عدلًا وإنسانية، وطن يسهم في بنائه مثقفوه المغتربون مع إخوتهم داخل العراق."