محمد عبد الجبار الشبوط /
مع بزوغ كلّ عام هجري جديد، تعود إلى الواجهة واحدة من أعظم الملاحم الإنسانية الخالدة: ثورة الإمام الحسين بن علي (عليه السلام)، تتبعها زيارة الأربعين التي تحوّلت إلى أكبر مسيرة سلمية تطوعية في العالم المعاصر. غير أن هذه الشعائر، إذ تُمارَس وتُعاش بهذه الكثافة والعمق، تدعونا – في القرن الحادي والعشرين – إلى قراءة حضارية جديدة، تتجاوز البعد العاطفي والطقوسي، وتغوص في المعاني التأسيسية التي يمكن أن تسهم في صياغة مستقبل إنساني أكثر عدالة وكرامة. حين وقف الإمام الحسين في كربلاء، كان خطابه جوهريًا: "إني لم أخرج أشِرًا ولا بطرًا، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي." كانت هذه دعوةً صريحة لإعلاء كرامة الإنسان، ورفض كل أشكال القهر والاستبداد. في زمنٍ تتزايد فيه أنظمة الاستعباد الحديثة بأشكال ناعمة أو عنيفة، يعيدنا الحسين إلى المبدأ الجوهري: لا قيمة لأي نظام سياسي أو اقتصادي إذا لم يصن الحرية والكرامة وحق الإنسان في الاختيار والمقاومة. كما تُجسّد زيارة الأربعين بوضوح فلسفة حضارية تقوم على المبادرة الفردية والمسؤولية الجماعية. فكل زائر يمشي مئات الكيلومترات طوعًا، ويتلقى خدمات طبية وغذائية ومأوى بلا مقابل، من مواطنين عاديين يرون في خدمة الزائرين شرفًا ومشاركة في قضية كونية. هذا النموذج يمثل نواة لمجتمع حضاري متكافل، يتجاوز حسابات السوق، ويعيد الاعتبار إلى الأخلاق كقيمة مؤسسة للحياة العامة. وفي عالم يُغرقه الاستعراض الإعلامي والتسليع والانفصال الروحي، تبرز زيارة الأربعين كفعل رمزي عميق، يعيد الإنسان إلى مركز المعنى. الملايين الذين يمشون نحو الحسين لا يسعون وراء ترف أو شهرة، بل يعيشون رحلة وجودية ملؤها الإخلاص، والتضحية، والربط بين الماضي والمستقبل. هذا التمرين السنوي يُذكّرنا بأن الحضارة لا تُقاس بمؤشرات الاقتصاد فحسب، بل أيضًا بقدرة المجتمعات على الحفاظ على المعنى والقيم العليا. لم تكن ثورة الحسين لحظة محلية أو تاريخية مغلقة، بل كانت ثورة معيارية، تصلح لقياس صلاح أي نظام أو فكرة. إن منطق "هيهات منّا الذلة" الذي نطق به الحسين، لا يزال راهنًا في ظل قوى الهيمنة والتطبيع مع الظلم. وهو شعار يمكن أن يتحوّل إلى منظومة قيم حضارية تؤسس لموقف إنساني شامل ضد الطغيان أينما كان، ومع أي شعب مظلوم. صحيح أن زيارة الأربعين تنطوي على بُعد وجداني عميق، لكن المطلوب اليوم أن يتحول هذا الحزن إلى مشروع حضاري بديل. أن يكون الحسين بوصلة، لا للحداد فقط، بل لإعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس الكرامة، والعدل، والمواطنة، والمسؤولية. في هذا الإطار، يمكن قراءة الزيارة بوصفها تمرينًا حضاريًا سنويًا لتشكيل وعي جمعي قادر على تحمّل مسؤولياته تجاه الحاضر والمستقبل. الحسين ليس ذكرى، بل نداء مستمر عبر الزمن. وزيارة الأربعين ليست مجرد شعيرة، بل منصة حضارية عابرة للطوائف والقوميات. وفي القرن الحادي والعشرين، حيث تتعاظم التحديات العالمية، تبقى كربلاء منارة، لا للشيعة وحدهم، بل لكل أحرار العالم. إنها دعوة متجددة لتأسيس حضارة القيم والمعنى والمقاومة في وجه حضارة الاستهلاك والتفاهة والاستعباد.