100%
أحمد الهاشم
مع أن الراحل- ويا للأسى في هذه الكلمة- مهدي طالب لم يكن ميّالًا إلى المجاهرة والاستعراض بالمصطلحات الفخمة، فإنه كان شغوفًا بالإتقان والجودة، على خلفية نهمه بالاطلاع والمثابرة على الإلمام بالجديد في الصورة واللون والأفكار.
لم يتوقف مخرج (ضياع في حفر الباطن) عن الاستزادة. وما يلي من القول هو خلاصة حوارات مع صاحب (الماروت)، مذ كنا بالشام، وتاليًا ببغداد.
كنت أردد معه بيت المتنبي "ولم أر في عيوب الناس شيئًا، كنقص القادرين على التمام." فهاجسه كان (التمام) ولا يرتضي التهاون في عدم الإيفاء بالإتقان من جراء تقشف إنتاجي.
الشاغل العراقي
البيئة العراقية عند صانع (وادي السلام) زاخرة بالحكايات. وظلت حقبة الدكتاتورية، التي جربت البلاد فيها تعاسات شديدة، تشغله حتى أنجز واحدًا من الأعمال المُعبِّرة والمُتقَنة (ضياع في حفر الباطن). وحتى في اختيار الموسيقى، عمد إلى استلهام نغم اللامي العراقي الأصيل في العملين الأول والثاني.
عكس البيئة العراقية في الشخصيات والتعبيرات اللغوية، وفي تفاصيل دقيقة كانت مُرهقة بالتأكيد لكادر العمل. كان يجيد إلحاق الأذى بالاستسهال والضحالة. ولا يحب تقديم عمل مع فاتورة اعتذارات عما كان يجب فعله. إمّا أن تقدم عملًا مُشرِّفًا، أو لا تجازف بالمساومة على المعايير الفنية الرفيعة.
وعند صاحب (دراما نص كوم)، فإن البيئة العراقية تنطوي على الكثير مما يستحق أن يتحول إلى دراما. كان يعتريه الأسى، وبوجدان ملتهب، لأن الكثير من الضحايا والقضايا لم تنل نصيبها من الاهتمام في بلاد نزفت دمًا ودمعًا كثيرين.
السخرية والفن
لم يكن مهدي طالب يحب الرطانة، والألفاظ الطنانة. كان يراها نوعًا من التورم، وليست دلالة على الاكتناز. كانت قدرته على السخرية من الأشياء نوعًا من المجابهة اللينة حيال ما يراه زيفًا. في الفكاهة شيء من تدوير الزوايا حتى لا يتحول النقد إلى تجريح. يُدرك أن البساطة هي أرفع قيمة للفن، فالأخير موجود ويفرض ضرورته لأنه يتوجه إلى الجميع ويفهمه الغالبية، ولو كان للمختصين فقط لفقد خصوصيته.
الجمهور والإنتاج
كان مهدي طالب يرى ضرورة التعرف على متطلبات الجمهور وميوله. ففي عصر النواقل البصرية والسمعية والإنترنت باتت ذائقة الجمهور حادة. والعمل الدرامي في النهاية يستهدف جمهورًا ما. وياحبذا لو عمدت شركات الإنتاج- التي نفتقد حضورها- إلى إجراء استطلاعات لمعرفة ميول الجمهور وتطلعاته.
أما بشأن الإنتاج، فليس من المُفترض عنده أن تكون أولوية التمويل، من الدولة، للأعمال الدرامية، وإنما للبنية التحتية للدراما، مثل إنشاء مدينة إنتاج إعلامي تتيح تصوير مشهد في الخمسينيات من دون أن تزاحمك أبراج الاتصالات وأسلاك الكهرباء!
والجانب الآخر من التمويل هو تأهيل وتدريب الكوادر الفنية، في دورات في الخارج للاطلاع على آخر المستجدات والتقنيات.
الاحتكاك والتجربة
عمل مهدي طالب مونتيرًا في الدراما السورية. كان يرصد كيف أدخلت الدراما السورية السينما في الدراما التلفازية والإبهار البصري، خصوصًا مع المخرج نجدت أنزور. كما رصد الخبرة في صنع النجم، والحرفة في العمل والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة من الأكسسوار والملابس والديكور، إضافة الى المهارة في تسويق المنتج.
لكن الدراما العراقية، عند مهدي، دراما بيئة يتعذر على المخرج العربي سبر أغوارها. قال ذلك بعد الاستعانة بمخرجين غير عراقيين.
وعن استضافة نجوم عرب لتسويق العمل الدرامي العراقي، كان يرى أن من الأفضل استحداث خط درامي ينتمي إلى بيئة عربية أخرى تندرج في العمل المحلي، وليس مجرد تزويق المسلسل العراقي بنجم عربي.
كان يردد أن من باب الاستسهال أن "المنتج المنفذ يُحاسب فقط على ساعات الإنجاز وليس على مدى ايفائه بجودة المادة التي قدمها"، وهل خرج من التكرار في الموضوعات.
مهدي، كانت الحوارات معك ممتعة، ولكن بابها انغلق برحيلك، الذي مازال صدى قهقهتك يكذّب خبره.