ريا عاصي /
في وطنٍ ينهض من رماده بصعوبة، تقف المهندسة الإيزيدية (ديرسيم خيري نعمو) كصوتٍ بصريّ للذاكرة، تحفر في الخرسانة ملامح من صمتٍ طويل. ابنة المنفى التي وُلدت خلال هروب أهلها من حرب الخليج إلى إيران عام 1991، لم تكن تحمل في طفولتها سوى صور الحرب والتهميش، لكنها قررت أن ترد على الخراب بالتصميم، وعلى النسيان بالخرائط. ديرسيم، التي لجأت إلى ألمانيا في التاسعة عشرة من عمرها، تاركة دراسة الهندسة المدنية في بغداد، لتدرس العمارة بعينين تنظران إلى الوطن من بعد، لكن بذات العمق. مشروع تخرجها الجامعي كان تصميم (مكان لقاء للإيزيديين في هانوفر)، كأنها كانت تضع الحجر الأول لعودة رمزية، معمارية، إلى الأرض التي هجّرت منها. وبينما كانت تتابع أخبار وطنها من المهجر، شرعت في تصميم (متحف الذاكرة) الذي وافقت الحكومة العراقية رسميًا على إنشائه في بغداد عام 2020. المتحف سيكرّس للاعتراف بالإيزيديين كجزء من التاريخ العراقي، ويخلّد ضحايا الإبادة التي ارتكبها تنظيم داعش في سنجار عام 2014. لكن هذا لم يكن كل شيء. ففي أغسطس / آب 2023، وقفت ديرسيم على تراب سنجار، لتشهد افتتاح تصميم آخر لها: (نصب الإبادة الإيزيدية) في قرية صولاغ، بمحاذاة ما يُعرف اليوم بـ(قبر الأمهات)، حيث وجدت أكثر من 90 امرأة إيزيدية مسنّة مقتولات في بركة خرسانية فارغة، حين اجتاح داعش المدينة. النصب يتكوّن من 25 عمودًا خرسانيًا متفاوتة الارتفاع (من متر إلى عشرة أمتار)، تشكّل معًا هيئة جبل سنجار، الرمز الأكبر للثبات في الذاكرة الإيزيدية، فيما يعلو العمود الأطول رمز الشمس – أحد أقدس الرموز في الديانة الإيزيدية – ليمثل الحياة والولادة من جديد. أمام هذا المشهد، تنتشر 3000 شاهدة قبور غير محددة الهوية، في تحية صامتة لأولئك الذين لم تُعرف أسماؤهم، لكنهم سُجلوا في ضمير الجبل. صُمم النصب من قبل ديرسيم، ونُفّذ بدعم من المنظمة الدولية للهجرة (IOM) وبتمويل من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وبشراكة مع نادية مراد، الحائزة على جائزة نوبل للسلام، التي قالت في الافتتاح: "سيكون هذا النصب أداة تعليمية للعالم لتذكر الإبادة، ومنع تكرارها مجددًا، لأي شعب آخر." الموقع، الذي استغرق بناؤه ثمانية أشهر، شغّل أكثر من 60 عاملًا من أبناء سنجار. حبها للعراق لم يكن بلا وجع، لكنه كان حقيقيًا، وكانت تصاميمها كأنها تحاول أن تعيد ترتيب العلاقة بينهما، بلدٌ يحتضنها أخيرًا، وذاكرةٌ تأبى النسيان.