100%
حميد قاسم
نهضت فزعًا مقرورًا، هكذا في عز تموز.. رأيتها تلملم عباءتها السوداء وترمقني بعينين كليلتين من البكاء -حتى موتانا يبكون- مسحت جفونها المبللة بطرف (الشيلة) وقالت قبل أن تغادرني: "يمة مسلمة عليك.." سمعت الطبول والدفوف تقرع والناس تصرخ على الايقاع الذي لطالما تنعمنا ببراءته وحنينه وحماسته قبل أن يفسده علينا بعض من صادروا أحبتنا ورموزنا.. كان الصوت يعلو... دُم، دُم، دُم، حيدر..
صوت الطبول يعيدني إلى ذلك الصبي في الصف الأول المتوسط، العائد من ثانوية قتيبة إلى بيتهم في قطاع 42 من جهة الداخل. أيام محرم، حيث تختلط أصوات حمزة الصغير وجاسم النويني الطويرجاوي وياسين الرميثي، الأصوات تدوي في فضاء المدينة المترب الحار فتمنحها السكينة، وذلك الحزن العميق في وجوه أهلها المنسحقين..
جابر باجابر، آه يا حسين ومصابه، جسام يا سلوتي.. وآه يا ابني شگول اعليك آه يا ابني.. فتلقى المراثي هوىً عظيمًا في روح الفتى الذي يتلمس أولى خطواته في الرفض والتمرد والثورة. جوق من الصغار يترنمون بشغف: عريسنا القاسم چا والعرس وينه.. خاف الشباب يموت ويرمّل سكينه..!
الرايات تتقدم المواكب، وعيسى حسن الياسري يمسك بحبل ناقة السجّاد، ويدل الزينبيات على الطريق بعد ان أضاعت الجغرافيا والسياسة والساسة (الرائعون) طريقه إلى نهر (أبو بشوت)، وأخذوا منه صرّة الرشاد، ليمنحوه كيسًا (أمميًا) ورقمًا وزرعوه في صقيع الشمال الكندي.. رأيت أبي محمولًا على محفة، ممددًا، يعقد كفيه خلف رأسه وينشج: "ناحل وامشي مكابر تراني، اتجلد خاف عدواني تراني، تارة الموت يلفاني وتراني.. أصحى من يمر شامت عليّ." رأيت علي ياسين يستعيد طفولته طالبًا في السادسة من العمر في الشاكرية، ينزل ببدلته المعفرة بالدم والتراب من سلّم قاعة الخلد، هابطًا إلى البصرة. رأيت أصحابي يحملون نعوش سمير علي وحسن مطلگ وحمد صالح وحاكم محمد حسين وحسين الحسيني وضرغام هاشم وعقيل علي وعبد اللطيف الراشد وهادي السيد حرز وگزار حنتوش وأحمد آدم فيقول أحدهم: من سيحمل نعوشنا إذا متنا في بلاد الغربة الباردة..؟
كلهم يقفون تحت نافذتي، لكني ألمح وسطهم تلك السيدة الجميلة وهي ما زالت تمسح عينيها بطرف (الشيلة) قبل أن تمضي صوب المقبرة وحدها.. أصيح وراءها: "يمه.. يمه".. حتى يستعير ندائي نغمته من داخل حسن "يمه يايمه يايمه".. لكنها لا تسمعني، فلا أعود أرى أحدًا سواكم.
سأغلق النافذة وأقول لكم: كم أكرهكم لفرط ما أحببتكم؟!
لكن صوتًا جنوبيًا يتسلل من خلل الستارة بصوته الذي ينوح على حال شعبه منذ خمسين عامًا:
هلبت كسرنا خاطر الله؟
أرفع رأسي إلى السماء، أمسح دموعي ولا أقول شيئًا.