100%
نرمين المفتي
كانت واقعة الطف، وتستمر على مدى الزمن، مدرسة حية شكلتها الدماء الطاهرة والمواقف والكلمات. وإذا كان الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) قد حمل راية الثورة بدمه، فإن شقيقته السيدة زينب (عليها السلام) حملت راية الوعي والحق بصوتها وشجاعتها، لتكمل الرسالة.
حين خرج الإمام الحسين من المدينة متجهًا إلى مكة ثم كربلاء، اصطحب معه نساء بيته، وفي مقدمتهن السيدة زينب، في خطوة مدروسة ضمن ثورته الإصلاحية. إذ أراد أن يبين للأمة أن المرأة ليست حبيسة الجدران ولا متفرجة على الأحداث، بل شريك أصيل في صناعة التاريخ. وكما كانت النساء في بدايات الدعوة الإسلامية شريكات في الهجرة والثبات ونشر الرسالة، كانت نساء كربلاء امتدادًا لذلك الدور الأصيل، يحملن الوعي، ويشهدن على الجريمة، ويحولن الألم إلى خطاب يوقظ الضمائر.
بإرادة شامخة وقوة إصرار على قول الحق، دخلتِ السيدة زينب مجلس يزيد، لا منهزمة ولا منكسرة، بل واثقة، واعية، تُدين الجريمة وتفضح الطغيان، حتى ارتبك الجلّاد أمام صلابتها، وارتعد عرش الظالم من بلاغة كلماتها. وهناك، صدحت بخطبتها الخالدة، وكشفت للطاغية حقيقته قائلة: "فَكِدْ كَيْدَكَ، وَاسْعَ سَعْيَكَ، وَنَاصِبْ جُهْدَكَ يَا يَزِيدْ، فَوَ اللهِ لَا تَمْحُو ذِكْرَنَا، وَلَا تُمِيتُ وَحْيَنَا، وَلَا تُدْرِكُ أَمَدَنَا، وَلَا يَسْقُطْ عَنْكَ عَارُ مَافَعلتْ، وَهَلْ رَأْيُكَ إِلَّا فَنَدٌ، وَأَيَّامُكَ إِلَّا عَدَدٌ، وَمَا جَمْعُكَ إِلَّا بَدَدٌ."
ما فعلته السيدة زينب بعد كربلاء، لا يقل أهمية عما فعله الإمام الحسين في كربلاء. لقد أحيت الذاكرة، ومنعت النسيان، وثبتت الحق في وجدان الأمة. لم تكن مجرد شاهدة، بل كانت ناقلة صادقة للحدث، ومفسرة لمعناه، وبذلك صنعت من المأساة وعيًا، ومن الحزن صحوة.
واليوم، ما أحوجنا إلى روح زينب في وجه الظلم الحديث. كل امرأة تواجه الطغيان، ترفع صوتها دفاعًا عن الأرض، أو الكرامة، أو الحقيقة، تحمل شيئًا من زينب. من فلسطين إلى العراق، من الساحات إلى المعتقلات، من منابر الإعلام إلى بيوت الشهداء، تقف نساء يواصلن الرسالة ذاتها: إن الكلمة أمانة، والصمت خيانة.
إن السيدة زينب لم تكن حكاية أمس، بل نداء دائم لكل امرأة حرة يبلغها ألا تسكت، فالصوت أحيانًا أقوى من السيف، والحق الذي يُروى لا يموت أبدًا.