100%
عامر جليل إبراهيم
تصوير/ خضير العتابي
في مواسم الحزن والولاء، تُضاء الطرق إلى كربلاء بنبض العاشقين، وتُسكب الدموع على الأرض التي احتضنت الدم الطاهر. زيارة الأربعين ليست مجرّد شعيرة دينية، بل هي نداء السماء إلى أهل الأرض ليجددوا العهد مع سيد الشهداء. هي ملحمة ولاء وسِفر روحاني يتكرر كل عام. يحمل معه القلوب والأقدام إلى مشهد الخلود.
هناك، حيث تراب الحسين، تُكتب صفحات جديدة من الإيمان والتضحية والانتماء للمبادئ التي لأجلها ضحى أبو عبد الله بكل شيء.
درب الحسين
في هذه المسيرة الخالدة، استطلعت "الشبكة العراقية" آراء عدد من الزائرين عما تعنيه هذه الزيارة المباركة في نفوسهم، من معانٍ روحية، وما تحمله من دروس وعبر. أول المتحدثين كان الحاج كمال عزيز الجشعمي، الأمين الخاص لمزار الحر الرياحي، الذي قال:
"زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ليست مجرد خطوات على الأرض، بل هي مسيرة في عمق الذات، نحو معرفة الإمام، وفهم رسالته، والسير على دربه، بدون هذا الفهم تصبح الزيارة كأية رحلة تخلو من البركة وتفتقد معناها الروحي." مؤكدًا أن الروايات الواردة عن الأئمة، خاصة عن الإمام الباقر (عليه السلام)، تربط الزيارة بوعي الزائر إذ يقول: "من زار الحسين عارفًا بحقه كتبه الله في عليين."
منبر عالمي
يضيف الجشعمي قائلًا: "يقدّم الزائر في هذه الزيارة المباركة عهدًا صادقًا بأن يعيش قيَم الحسين (عليه السلام): الصبر والإيثار والثورة ضد الظلم والنقاء الروحي." متابعًا: "في كل زيارة يُستحضر الإمام كقائد ورسالة، وتُستحضر مبادئه كنور يضيء طريق الأحرار." مؤكدًا أن "الزيارة الأربعينية تُعد دورة تربوية متكاملة، فهي ليست فقط شعيرة دينية، بل درس متكامل في العقيدة والأخلاق والسلوك. من خلالها يتلاقى الملايين من المؤمنين، من مختلف المدن والبلدان، يتآخون تحت راية الحسين، ويتبادلون الحب والدعم في أجواء مفعمة بالإيمان." مبينًا أهمية هذه المسيرة الثقافية والإعلامية، حين تقام الصلوات، وتلقى المحاضرات، وتُوزّع الكتب، وتنشر الرسائل الحسينية بأكثر من لغة، ما يحوّل الزيارة إلى منبر عالمي لرسالة أهل البيت.
يتابع الحاج الجشعمي بالقول: "لم تعد زيارة الأربعين محصورة في محيطها الجغرافي أو المذهبي. إنها اليوم تشهد حضورًا دوليًا لافتًا، ضيوف من أديان ومذاهب متعددة يشاركون في هذه المسيرة، وينقلون للعالم صورة حية عن الإخلاص، والكرم، والسلام الذي تحمله هذه المناسبة."
في ختام حديثه، يرفع الحاج الجشعمي كفّيه بالدعاء قائلًا: "نسأل الله أن يزيد قلوبنا تعلقًا بالحسين (عليه السلام)، وأن يجعلنا من الزائرين السائرين على خطاه، وأن يمنّ علينا بشفاعته يوم القيامة، وأن يثيب الزائرين وكل من يخدمهم ويجعل هذه الزيارة منطلقًا لإصلاح الأمة وتحقيق العدالة الإلهية."
بيعة متجددة
السيد سجاد أحمد الموسوي، زائر أربعيني من مدينة الناصرية، يروي تجربته مع زيارة الأربعين التي لم يتركها منذ عشرين عامًا قائلا:
"حين أمشي إلى كربلاء أشعر أنني أترك الدنيا خلفي، في كل خطوة أسترجع مشاهد كربلاء، وأحاول أن أكون جزءًا من نصرة الحسين (عليه السلام)، ولو بنيّة، ولو بدمعة، ولو بتعب الطريق. هذه ليست مجرد زيارة، انها بيعة تُجدد كل عام."
ويضيف: "أنا مزارع بسيط، وربما لا أملك علمًا كثيرًا، لكنني أُدرك أن الحسين (عليه السلام) هو رمز الكرامة، وكلما تعبت في المسير أقول لنفسي: أنت الآن تواسي زينب، وتمشي في طريق السبي، وتسير مع من سار مع الحسين، فهل في غير هذا شرف أعظم؟"
السيد الموسوي – وغيره من ملايين الزائرين – لا يحملون فقط أمتعتهم، بل يحملون قلوبًا مملوءة بالحب والعهد والوفاء، يقطعون مئات الكيلومترات، لا لطلب دنيا، بل لنصرة قضية، وبذل خطوة في سبيل من قدّم كل شيء من أجل بقاء الدين.
همسُ زينبي
أما (أم حسين)، زائرة من بغداد، فهي تشارك في مسيرة الأربعين منذ سبعة أعوام متواصلة، وكانت تمشي سائرة الى الحسين برفقة بناتها، وهن يحملن الطعام والماء للمشاة فتقول: "أحدث بناتي ونحن نمشي بأن هذا الطريق لا نمشيه للسياحة أو الترف، هذا طريق الدموع، طريق زينب، طريق العباس، كل موكب نمرّ به هو درس في الكرم، وكل دمعة تسقط من عيوننا هي شهادة حب ووفاء.. نحن نسير، ونواسي قلب فاطمة الزهراء في كل خطوة."
وتتابع: "منذ أن استشهد ولدي قبل ثلاث سنوات، وأنا أمشي وأقرأ زيارة الأربعين على روحه، لعلّ الإمام الحسين يحتضنه في قبره، كما يحتضن زائريه في الجنة." مؤكدة بالقول: "لا أشعر بالتعب وانا أسير في هذا الطريق، بل أشعر أن الحسين (عليه السلام) يربّت على قلوبنا، ويقول: أنتنّ في دربي، أنتن زينبيات بحق."
تجربة أم حسين تختصر مشاعر آلاف النساء اللواتي يشاركن في المسيرة بكل تفاصيلها: من الخدمة إلى المواساة، من الصبر إلى الدعاء، من التربية الحسينية لأطفالهن إلى حمل رسالة كربلاء عبر الأجيال.
في زيارة الأربعين، لا تسير الأقدام وحدها، بل تمشي معها النوايا، والأحلام، والدموع، والعهود. كل زائر يكتب في سيرته على درب كربلاء سطرًا جديدًا في سِفر الوفاء. هنا، لا يُقاس التعب بالكيلومترات، بل بالدموع الصادقة، والنوايا البيض، والأرواح التي تُحلّق صوب الحسين (عليه السلام) دون أن تطلب شيئًا سوى الرضا.
هكذا تظل كربلاء منارة لا تغيب عنها القلوب، وإن غاب الجسد. وهكذا يبقى الحسين حيًّا، في كل نبضة، في كل مشي، في كل "لبيك يا حسين" تُنطق من الأعماق.
فيا من مشى إلى الحسين: أبشر، فإن خطواتك ليست على تراب، بل على طريق الجنة.