100%
نرمين المفتي
رحلت إقبال نعيم، مع حفظ الألقاب - لأنها قبل كل هذا صديقتي (قبولة) – رحلت سريعًا، وكأنها تعرف أن بعض الأدوار لا تحتمل البقاء طويلًا. تاركةً وراءها لوحة من الأسى، فلم يكن المرض الذي أصابها سوى خذلان حب كبير أثقل القلب، وكأن دورها المميز الذي لا ينسى في (ترنيمة الكرسي الهزاز)، دور الانتظار والفقدان، أصبح بعضًا من حياتها، وإذ أصبح كرسي المسرح ثابتًا لأجل (قبولة)، ها هو مع رحيلها يعود فارغًا وهزازًا ومهتزًا.
لم تكن (قبولة) ممثلة فقط، بل حضورًا استثنائيًا، تعرف أن الخشبة لا تكذب، إنما الممثل حين يكذب، يُطفئ الضوء داخله. ولهذا، حينما كانت تصعد إلى المسرح، تجعل الزمن أبطأ، كي نطيل لحظة الصدق. وحين غابت، صار الوقت أسرع، وكأن الحياة نفسها تتهرب من مواجهة هذا الغياب. في كل عرض وقفت فيه، كانت تزرع درسًا جديدًا: كيف نصغي؟ كيف نحزن بلا أن نبكي؟ كيف نُفكر داخل الدور قبل أن ننطق؟
لم تكن إقبال ممثلة فحسب، بل روحًا تسكن النصّ، وصوتًا يشق طريقه في الضجيج دون أن يعلو، لكنه يصل. في كل مشهد أدّته، كانت تبذر شيئًا من وجدانها، تشاركنا ألمها حين يُروى، وتمنحنا أملًا حين يتوه. كانت تجيد الإنصات للحوار كمن يسمعه لأول مرة، وتلقي الجملة كمن يكتبها بقلبه، لا بلسانه. عاشت للمسرح، ولم يكن الفن مهنة لها، بل هوية. آمنت بأن المسرح ليس ترفًا بل ضرورة، وأنه المرآة التي ينبغي ألا تخجل الحقيقة من الوقوف أمامها. فقد المسرح العراقي برحيلها بعض ذاكرته الصوتية. لا أحد يستطيع إعادة ذلك الالتفات المفاجئ الذي كانت تفعله (قبولة)، أو تلك الوقفة الصامتة التي كانت تملأ الخشبة.
لم تكن تجربتها قاصرة على المسرح وحده. إذ أبدعت في السينما والتلفزيون والإذاعة والدوبلاج، وتركت أدوارًا يصعب محوها من الذاكرة. صوتها في المسلسلات الإذاعية كان له وقع خاص، وكأنها تحوّل الكلمات إلى مشاعر مسموعة. أما في التلفزيون والسينما، فكانت توازن بين الأداء الفني وبين الحفاظ على كرامة المهنة.
وكأستاذة، قرأت كتابات طلبتها عنها بعد رحيلها، فقد درّستهم الصدق قبل الأداء، وأن التمثيل ليس ترديد النصوص، بل إعادة تشكيل الحياة، وكان شعارها أمامهم وأمام نفسها: الصدق، لأن الفن لا يحب الزيف. و(قبولة)، لم تكن صادقة في الفن فقط، بل في الحياة أيضًا، مع نفسها والآخرين، ولكن، كالعادة، كان دائمًا هناك من يجرح هذا الصدق.. ويخذله!