اقتصاد من القاعدة.. كيف يُعيد التمويل الأصغر رسم خريطة الفقر في العراق ؟

اقتصاد

اقتصاد من القاعدة.. كيف يُعيد التمويل الأصغر رسم خريطة الفقر في العراق ؟
100%

علي الدفاعي /

في أحد أحياء محافظة بابل، كانت أم عباس (أرملة في الخمسين من عمرها) تعيش ظروفًا اقتصادية قاسية بعد وفاة زوجها. لم يكن لها مصدر دخل ثابت، وكانت تعتمد على ما يُقدَّم لها من مساعدات محدودة من الجيران وبعض الأقارب. كل صباح، كانت تبيع الخبز على باب منزلها لتأمين ما يسد رمقها وابنَتها الوحيدة. في عام 2021، سمعت (أم عباس)عن إحدى الجهات المحلية التي تقدم قروضًا صغيرة مخصصة لدعم المشروعات المنزلية للنساء ذوات الدخل المحدود. وبعد إجراء مقابلة بسيطة وتقديم الأوراق المطلوبة، حصلت على قرض بقيمة 1,200,000 دينار عراقي، استخدمته لشراء فرن طابوق وأدوات بسيطة لصناعة الخبز. بفضل هذا الدعم المالي، تمكنت من تطوير مشروعها الصغير، وزادت مبيعاتها تدريجيًا داخل الحي. لم يعد الخبز الذي تعدّه مجرد مصدر رزق يومي، بل أصبح مشروعًا متكاملًا ساعدها في توفير التعليم لابنتها وترميم أجزاء من منزلها المتواضع. تقول أم عباس لـ "الشبكة العراقية": "هذا القرض الصغير أعاد لي الأمل. شعرت أن هناك من يؤمن بقدرتي على الوقوف مجددًا دون الحاجة للشفقة أو المساعدة." قصة (أم عباس) تمثّل نموذجًا حيًا لتأثير التمويل الأصغر في تمكين النساء اقتصاديًا، خاصة في المجتمعات التي تعاني من الفقر والبطالة، حيث يُمكن لمبلغ بسيط أن يصنع تغييرًا جذريًا في حياة كاملة. قطاع التمويل الأصغر قطاع التمويل الأصغر في العراق، حسب الخبير الاقتصادي حيدر الشاهين، لا يزال في طور التشكّل، لكنه يمثّل ركيزة أساسية لتحقيق الشمول المالي وتمكين الفئات المهمّشة اقتصاديًا، خصوصًا الشباب والنساء وذوي الدخل المحدود. وهنا تبرز أهمية الدور المزدوج الذي تؤديه الجهات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني على حدّ سواء. وقال الشاهين في تصريح لـ "الشبكة العراقية" إنه، على مستوى الدولة العراقية، بدأ البنك المركزي العراقي منذ سنوات بخطوات مهمة لدعم هذا القطاع، سواء من خلال إطلاق مبادرات الإقراض المنخفض الفائدة، أو عبر تشجيع المصارف على تقديم خدمات مالية مبسطة كما أن هناك، وفق (الشاهين)، "تعاونًا واضحًا مع مؤسسات مثل (صندوق تمكين)، الذي يعمل بالشراكة مع القطاع المصرفي لتوفير تمويلات صغيرة موجهة لأصحاب المشاريع المتناهية الصغر في المناطق الهشة، أو ذات النشاط الاقتصادي المحدود." مضيفًا: "في المقابل، تلعب منظمات مثل التمويل الإسلامي الصغير، ومنظمات دولية ومحلية أخرى، دورًا فاعلًا في بناء قدرات المستفيدين، وتوفير التدريب والإرشاد المالي، ما يُسهم في تحويل التمويل إلى فرصة إنتاج حقيقية بدل أن يكون مجرد دين إضافي." فرصة ستراتيجية من ناحيته، الخبير الاقتصادي ناجي الغزي أكد على "الحاجة إلى تحسين البيئة التشريعية والتنظيمية، وتطوير قاعدة بيانات وطنية موحّدة للمقترضين، بالإضافة إلى إطلاق نظام رقمي شامل يربط الجهات المموّلة بمراكز التدريب والرقابة، وهذا ما نأمل أن تتضمنه الإصلاحات المقبلة في هذا القطاع." موضحًا أن "التمويل الأصغر ليس فقط آلية اقتصادية، بل هو أداة اجتماعية تنموية إذا أُحسن استخدامها، ويمكن أن يشكّل فارقًا حقيقيًا في حياة الناس. هذا التمويل ليس مجرّد قروض، بل هو أداة إنقاذ اقتصادي لفئات طالما أُهملت من النظام المالي التقليدي." موضحًا أن "التمويل الأصغر في العراق يمثل فرصة ستراتيجية للنهوض بشرائح اجتماعية واقتصادية تعاني من التهميش." مشيرًا إلى أن المستفيدين من هذا النوع من التمويل لا ينتمون إلى طبقة واحدة، بل يشملون طيفًا واسعًا من الفئات التي تعاني من ضعف الدخل أو البطالة أو النزوح. كما حدد (الغزي) فئات التمويل الأصغر، ومنها: الأسر المنخفضة الدخل: تعتمد هذه الأسر على قروض بسيطة – لا تتجاوز أحيانًا 1000 دولار – لتمويل أنشطة منزلية أو مشروعات صغيرة، مثل بيع المواد الغذائية أو الأعمال الحرفية، وتُعد هذه الفئة الأكثر هشاشة، غالبًا ما تعيش بأقل من 3 دولارات في اليوم. ربّات الأسر والعاملات: وهنّ نساء يتحملن المسؤولية الكاملة عن إعالة الأسرة، كثيرات منهن أرامل أو أمهات دون سند مالي. التمويل هنا يمنحهن القدرة على فتح مشروعات صغيرة في البيت أو في الأحياء الشعبية. الشباب العاطلون والخريجون: تمثّل هذه الشريحة طاقة معطّلة تبحث عن فرصة عمل. التمويل الأصغر يمنحهم رأسمال أولي – بين 500 و5,000 دولار – لبدء ورشة أو مشروع خدمي بسيط يحقق لهم استقلالًا اقتصاديًا. النازحون داخليًا: خاصة في المناطق التي شهدت نزاعات، مثل نينوى وكركوك. استفادت هذه الفئة من برامج خاصة لمؤسسات مثل (مؤسسة الثقة للتمويل)، التي وفّرت قروضًا لإعادة بناء مصدر دخل أو تحسين ظروف السكن. الحرفيون وصغار المزارعين: القروض تُمنح للعاملين في الزراعة، والخدمات اليدوية كالصيانة، والحدادة، والتجارة البسيطة (محلات بقالة، كشك متنقل.. إلخ)، ما يخلق حركة اقتصادية على المستوى المحلي. مؤسسات رائدة يشير الغزي إلى أن مؤسسات مثل (الشبكة العراقية للتمويل الأصغر)، لعبت دورًا محوريًا في تطوير هذا القطاع. فمنذ عام 2003 وحتى حزيران 2024، قدمت هذه الشبكة بالتعاون مع منظمات داعمة، أكثر من 1.2 مليون قرض بقيمة تجاوزت 4.6 تريليون دينار عراقي، وهم يخدمون اليوم نحو 69,600 عميل نشط، بينهم نحو 27 % من النساء. وبلغ متوسط القرض نحو 2.72 مليون دينار عراقي (أي ما بين 1,800 إلى 2,500 دولار أميركي). واختتم الباحث تصريحه بالتأكيد على أن التمويل الأصغر لا يُقاس فقط بالمال، بل بالأثر الاجتماعي والاقتصادي العميق الذي يتركه في حياة الناس قائلًا: "التمويل الأصغر مشروع حياة، لا مجرد تمويل. وهو وسيلة لتحويل الفقر من قدر محتوم إلى فرصة للتغيير. إنه دعم للاعتماد على الذات، وكسر لحلقة الاتكال المزمن على المعونات." كما دعا (الغزي) إلى إدماج هذا القطاع في الستراتيجيات الحكومية للتنمية، وتوفير بيئة تنظيمية وتشريعية تُحفز الاستثمار فيه، وتعزز قدرته على خلق اقتصاد من القاعدة إلى الأعلى. تحديات كبيرة بدوره، أكد الخبير الاقتصادي مقدام الشيباني أن "التمويل الأصغر يُعد أداةً محورية لتعزيز التنمية الاقتصادية المحلية، خاصة في المجتمعات المحرومة من الوصول إلى الخدمات المصرفية التقليدية. إلا أن التجربة العراقية في هذا المجال لا تزال تُواجه تحديات كبيرة تحد من فعاليتها". وفي تصريح لـ "الشبكة العراقية"، أوضح (الشيباني) أن "التمويل الأصغر في العراق يمر بمرحلة حرجة تتطلب مراجعة شاملة، تبدأ من رفع الوعي المالي لدى المستفيدين، وتمر بتطوير منظومة التدريب والدعم الفني، ولا تنتهي عند شروط الإقراض أو البيئة الاقتصادية غير المستقرة". مبيّنًا أبرز التحديات التي تواجه هذا التمويل، من بينها: نقص الثقافة المالية لدى فئات واسعة من المستفيدين، ما يؤدي إلى سوء إدارة القروض وفشل المشروعات. غياب التدريب المهني والإداري قبل وبعد القرض، ما يحرم أصحاب المشروعات من المهارات اللازمة للنجاح. شروط الإقراض القاسية، مثل الفوائد المرتفعة، أو الضمانات المرهقة، التي تُضعف من أثر البرامج. الوضع الاقتصادي الهش في بعض المحافظات، الذي يؤثر سلبًا على استقرار المشروعات. الخوف المجتمعي من القروض والوصمة المرتبطة بالفشل المالي، ما يقلل الإقبال على هذه المبادرات. منظومة تنموية ولمعالجة هذه التحديات، قدّم الشيباني مجموعة من الحلول العملية التي يمكن أن تسهم في تطوير قطاع التمويل الأصغر، أبرزها: تعزيز الثقافة المالية عبر حملات وطنية وبرامج تعليمية، وربط القروض بالتدريب الإلزامي للمستفيدين في مجالات الإدارة والتسويق، وتسهيل شروط الإقراض وتقديم حوافز للمؤسسات المانحة، وتحسين البيئة الاقتصادية المحلية من خلال البنى التحتية ودعم الأسواق، وإنشاء صندوق ضمان وطني يغطي جزءًا من المخاطر ويعيد جدولة القروض عند الحاجة، وتشجيع التعاونيات والمشرعات الجمعية في الزراعة والخدمات. واختتم الشيباني تصريحه بالقول: "التمويل الأصغر ليس مجرد قرض، بل هو منظومة تنموية تحتاج إلى بيئة داعمة ومتكاملة. إن تحقيق الاستدامة يتطلب شراكة بين الحكومة، والقطاع الخاص، والمنظمات المدنية لضمان استفادة حقيقية للفئات المهمّشة."

إقــــرأ المــــزيــــــــد

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال
تحقيقات

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي
تحقيقات

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي

حياة بلا تواصل اجتماعي..  هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟
تحقيقات

حياة بلا تواصل اجتماعي.. هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟
تحقيقات

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي
تحقيقات

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"
تحقيقات

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"

أبرز الأخبار

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

قصة إعدام الفنان صباح السهل

قصة إعدام الفنان صباح السهل

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج