100%
أحمد سعداوي
ربما يمكن اعتبار كتاب (أمواج) للدكتور عبد الله إبراهيم، الصادر في العام 2017، من أهم كتب السيرة خلال العقدين الأخيرين. ففي صفحات الكتاب الستّمئة، يستعرض الدكتور عبد الله مقاطع من تجاربه الحياتية ومواقفه الممتدّة على مدى خمسين عامًا.
الأهمية الأكبر بالنسبة لي، أن هذا الكتاب يعزّز متنًا ضعيفًا في الثقافة العراقية، ألا وهو كتب السيرة والمذكّرات والسرد غير الخيالي (من نمط كتب الرحلات وكتب الريبورتاج). هذا النوع من الكتب يحتلّ مكانة متميّزة في رفوف المكتبات العالمية، وفي تصنيفات الكتب على مواقع الإنترنت، هناك خانة لهذا النوع تُسمّى (Non-fiction)، وأشهر هذه الكتب على الإطلاق، تلك التي اعتاد الرؤساء الأميركيون على اصدراها بعد خروجهم من البيت الأبيض.
في السياق العراقي، حقّق كتاب المدير المدني لسلطة الائتلاف في العراق بول بريمر (عامٌ قضيته في العراق)، الذي صدر في 2006، مبيعات عالية. ومثله كتاب الروائي البيروفي الأشهر ماريو بارغاس يوسا (يوميات العراق) عن تجربة تجواله شهرًا كامل في العراق بعد سقوط نظام صدّام؛ نال تغطية ممتازة وحقّق مبيعات عالية.
كتبتُ -قبل سنوات- عن تجربة الكتابة غير الخيالية للكاتب قيس حسن، وأشدتُ بخوضه غمار تجربة لا تُعدّ مغرية عند كثيرين، لكنها في الواقع مهمّة جدًا؛ لأن السرد الخيالي، مثل القصص والروايات، لا يمكنه تغطية كلّ شيء من تجارب الشعوب والأمم. فهناك تجارب لا تبدو مناسبة للكتابة الأدبية، وإنما للتوثيق.
تجارب المذكرات لهادي ياسين، وكتب الرحلات للشاعر باسم فرات، وعشرات الكتب من هذا النوع التي لا تحظى بضوءٍ كافٍ، بالإضافة إلى كتب الدكتور محمد غازي الأخرس، التي تتقصّى التوثيق والتحليل لعناصر من الثقافة الشفاهية والتاريخ الثقافي العراقي المعاصر، تستحقّ، في الحقيقة، الاهتمام والعناية من القرّاء.
قبل سنوات، تحدّثتْ معي امرأة إيزيدية تعيش في أوربا عن تجربتها في زيارة معسكرات النازحين الإيزيديين في كردستان العراق، والقصص الفظيعة التي سمعتها من الناس في مواجهة العصابات الإرهابية. وكانت متحمّسة لتوثيق هذه التجربة، غير أنها ظلت متردّدة لأنها لا تملك أدوات الكاتب المحترف. قلتُ لها: عليكِ أن توثّقي التجربة أولًا، أما الشكل الذي ستظهر به لاحقًا، فهو أمرٌ ثانوي.
شيءٌ مشابهٌ حصل مع رجلٍ تحدّث عن تجربته، حينما كان طفلًا، في مدينة الحلة خلال الانتفاضة الشعبانية عام 1991، ومقتل عائلته كلّها، وأيضاً تخلّى عن فكرة التدوين بسبب افتقاره للأدوات الأدبية.
كلّ هذه التجارب، وآلاف غيرها، بحاجة إلى التدوين والتوثيق. وهنا يدخل دور المحرّر الأدبي، أو ما يُعرف بـ(البلاك رايتر)، فلا أحد يصدّق اليوم أن رؤساء أميركا كتبوا مذكراتهم بأنفسهم، أو حتى فنانات البوب والغناء الشعبي، وغيرهم الكثير. وتفصيل ذلك يمكن أن يكون في مقالٍ آخر.