شارع البلاد

  حميد قاسم لربما كان شارع الرشيد الشاهد الصامت على أهم أحداث العراق خلال تاريخه الحديث، ابتداء من مطلع القرن الماضي، الذي شهد الافتتاح الرسمي لهذا الشارع العريق، بعد أن ظل طيلة عقود سابقة مجرد درب ضيق ومتعرج بين أحياء رصافة بغداد القديمة، يوم لم تكن بغداد بشطريها (الكرخ والرصافة) سوى شريطين من البيوت المتلاصقة على جانبي نهر دجلة، تمتد من باب المعظم حتى الباب الشرقي شرقًا، ومن خضر الياس حتى كرادة مريم غربًا، وسط محيط هائل من البساتين ومزارع النخيل والأشجار المثمرة· بمحاذاة دجلة، في جانبه الشرقي، امتد شارع الرشيد بين الأحياء القديمة، قبل أن يقوم والي بغداد العثماني خليل باشا بتوسيع الطريق وتعديل تعرجاته وانحناءاته قدر المستطاع، حيث كان يدعى "الجادة العمومية"، يرتاده القناصل الأجانب من الباب الشرقي باتجاه السرايا بعرباتهم، فضلًا عن كبار القوم من سكنة باب الشيخ. وقد أطلق عليه حينها (خليل باشا جادة سي)، أي شارع خليل باشا، وفق اللوحة المعدنية التي ظلت معلقة على جدار جامع السيد سلطان علي حتى خمسينيات القرن العشرين· ولتعديل الشارع وتنظيمه، على الصورة القائمة اليوم، حكاية طريفة قد لا تكون دقيقة، لكنها تحاول أن تفسر سبب عدم امتداده باستقامة واحدة، تقول: إن مهندسي الدولة العثمانية مدوا حبلًا طويلًا بين الباب الشرقي وباب المعظم فوق البيوت المراد إزالتها واستملاكها، غير أن أصحاب البيوت كانوا يحولون الحبل إلى البيوت المجاورة مساءً ليجتازهم الهدم، فيما يقدم كتاب (بغداد في العشرينات) تفسيرًا أكثر معقولية، يقول إن امتداد الشارع اصطدم بمعارضة عدد كبير من رجال الدين والمثقفين على تلك الاستقامة التي تشمل عددًا من الجوامع والمباني الأثرية، فضلًا عن عدد من بيوتات المتنفذين والأجانب المشمولين بالحماية وفق امتيازات رعايا الدول الغربية حينذاك، لذا تعرّج الطريق ملتهمًا أملاك الفقراء والغائبين ومن لا وريث لهم··! منذ آذار الماضي يشهد الشارع حملة تأهيل لأيقونة بغداد القديمة بالتعاون بين الحكومة ورابطة المصارف الأهلية، بإشراف البنك المركزي العراقي، وهي حملة مباركة، غير أنها، وكما يبدو، صبت اهتمامها على واجهات المباني من محال وفنادق ومقاهٍ تراثية، دون أن تعمل على تحديث البنية التحتية للشارع، بما يعيد بعضًا من أمجاده المتوارية، فالشارع خسر هويته المدينية - الثقافية أمام زحف محال معدات الإطفاء ومضخات المياه والمعدات الكهربائية وغيرها من المحال التي جعلته شاحبًا متجهمًا. لا تليق بهذا الشارع سوى عذوبة بغداد ورقتها ولطفها، ومن ذلك أن يعود المكان حافلًا بالمنشآت الثقافية، التي غدت اليوم غريبة فيه، مثل منتدى المسرح ومعهد الدراسات النغمية، فضلًا عن دور العرض السينمائية والمسرحية التي توارت تمامًا من الشارع منذ عقود. اقترح أن يعاد تأهيل أسواقه العريقة، مثل الشورجة والصفافير وسوق الوراقين وشارع النهر، فضلًا عن جامع الحيدرخانة وجامع العاقولية وخان مرجان وسيد سلطان علي والمربعة والسنك، مثلما حدث من تأهيل لشارع المتنبي، وأن يمنع سير السيارات فيه ليكون ممشى يشبه (الجي بي آر) في دبي، وممشى (تقسيم) في إسطنبول، ولا بأس في وجود (ترام) ينقل مرتادي الشارع بين ساحة الميدان والباب الشرقي. لن نحلم باعادة أمجاد چقماقچي وسينما الوطني وريكس ومسرح النجاح والمقهى البرازيلية ومقهى عارف آغا، لكننا نحلم بأن تجد قاعات العرض التشكيلي مكانًا لها في الشارع، وكذلك المسارح والمطاعم التراثية والمقاهي الأدبية.