100%
ريا عاصي
لم يكن الحريق الذي اندلع مساء الثلاثاء 16 تموز 2025 في بناية تجارية من خمسة طوابق في مدينة الكوت حدثًا استثنائيًا، بل كان فصلًا مألوفًا في سردية الكوارث المتكررة التي تشهدها مدن العراق. البناية التي افتُتحت قبل أيام فقط، وتضم (هايبر ماركت)، التهمتها النيران وسط غياب كامل لمخارج الطوارئ، وسوء تجهيز فرق الإنقاذ، وتأخر استجابتهم.
شهود عيان أفادوا بأن البناية لا تحتوي على سلالم هروب أو أنظمة إنذار، وأن طواقم الدفاع المدني التي وصلت لم تكن تمتلك رافعة للوصول إلى الطوابق العليا، ما صعّب عمليات الإخلاء وتسبب بحالة من الذعر بين العاملين والمتسوقين.
كوارث تتكرر
فاجعة الكوت ليست إلا واحدة من عشرات الحوادث التي أودت بحياة العراقيين في أماكن كان يفترض أن تكون آمنة. في أيلول 2023، اندلع حريق كبير في قاعة (الهيثم) للأعراس في الحمدانية شرق الموصل، أسفر عن وفاة أكثر من 100 شخص، معظمهم من النساء والأطفال. وأظهرت التحقيقات الأولية حينها أن القاعة كانت مغطاة بمواد قابلة للاشتعال، وأن مخارج الطوارئ كانت مغلقة، ولم تُفعّل أنظمة الإطفاء الآلي. وفي عام 2021، عايش العراقيون فاجعتين متتاليتين:
الأولى في مستشفى ابن الخطيب ببغداد، حيث التهمت النيران ردهات العناية المركزة المخصصة لمصابي كورونا، وأدت إلى وفاة 82 شخصًا، بسبب انفجار أسطوانة أوكسجين وضعف الاستجابة. والثانية في مستشفى الحسين التعليمي في الناصرية، حيث قضى ما لا يقل عن 60 مريضًا بسبب تماس كهربائي في وحدة العزل، وسط عجز تام في الإخلاء، وقبلهما حوادث عدة، بينها حريق مستشفى اليرموك عام 2016، الذي راح ضحيته أحد عشر طفلًا في قسم الخدج.
هشاشة المعايير
شهدت بغداد وحدها، خلال الأعوام الأخيرة، سلسلة من الحرائق التي كشفت عن هشاشة أنظمة السلامة، حتى في المباني المصنّفة كـ (حديثة) أو (ممتازة البنية). ففي مول المنصور، اندلع حريق جزئي في أحد المطاعم عام 2022، سببه تماس كهربائي، وسبقه حريق محدود في مول بغداد نهاية 2021. كما شهد سوق الشورجة أكثر من 12 حريقًا في عام واحد، بسبب سوء التخزين وغياب شروط الإطفاء، فيما التهمت النيران مستودعات غذائية في سوق جميلة بمدينة الصدر أكثر من مرة، أبرزها في حزيران 2023.
في نموذج آخر يعكس هشاشة معايير السلامة، حتى في الأبنية الحديثة والمرفّهة، اندلع حريق في واجهة فندق (قلب العالم) الواقع في منطقة القادسية ببغداد، في 29 حزيران 2025، وذلك بعد شهرين فقط من افتتاحه رسميًا خلال القمة العربية الرابعة والثلاثين التي استضافتها بغداد في أيار من العام نفسه. الفندق الذي احتضن أبرز وفود القمة وجزءًا من الاجتماعات الدبلوماسية، يُعدّ من أكثر المشاريع الفندقية تطورًا في العاصمة، ما جعل الحريق بمثابة صفعة رمزية لموثوقية معايير الإنشاء والسلامة في البلاد. ألسنة اللهب تصاعدت من الواجهة الخارجية، ما استدعى تدخلًا عاجلًا من الدفاع المدني بأكثر من 20 فرقة، في ظل حالة من القلق الشعبي عبرت عنها مقاطع الفيديو المتداولة للحادث.
وبرغم أن الحادث لم يُسجّل خسائر بشرية، إلا أنه فتح باب التساؤلات من جديد حول مدى الالتزام الفعلي بمعايير الحماية والإنذار والإخلاء، حتى في الفنادق التي يُفترض أن تكون مؤمّنة بأعلى المستويات، خاصة بعد أن أعلنت إدارة الفندق أن التحقيقات الأولية ترجّح حدوث تماس كهربائي أو خلل في مواد البناء القابلة للاشتعال.
بيانات صادمة
تشير بيانات مديرية الدفاع المدني العراقية إلى تسجيل أكثر من 30,000 حريق في عام 2024، بمعدل يزيد عن 80 حادثًا يوميًا، تتركز في الأبنية السكنية والتجارية والمخازن والأسواق العامة. وتعود الأسباب في الغالب إلى التمديدات الكهربائية العشوائية، وعدم وجود نظم إنذار، أو استخدام مواد بناء سريعة الاشتعال. ومن اللافت أن 70 % من هذه الأبنية لا تخضع لشروط السلامة المعتمدة دوليًا، بينما تُمنح تراخيص التشغيل غالبًا دون فحص حقيقي للبنية الإنشائية أو وجود مخارج طوارئ.
وبرغم الأزمات المتكررة الناتجة عن الحرائق والانهيارات، يتواصل في العراق تشييد عشرات المجمعات السكنية الضخمة بارتفاعات شاهقة قد تصل إلى 40 طابقًا، من دون مراجعة جدية لمعايير السلامة أو جاهزية فرق الطوارئ. فبحسب بيانات وزارة الإعمار والإسكان، هناك أكثر من 230 مجمعًا سكنيًا قيد الإنشاء في عموم البلاد، بينها مشاريع عملاقة في بغداد والبصرة وكربلاء والنجف وأربيل. غير أن هذه الأبراج التي تشكّل تحوّلًا عمرانيًا لافتًا، تُبنى غالبًا على أرضية تشريعية رخوة، تغيب فيها الرقابة الهندسية الصارمة، ويُهمل فيها شرط وجود مخرج طوارئ فعّال، أو منظومة إنذار ومكافحة حريق حديثة، أو حتى تدريب السكان على الإخلاء في حال الكوارث. والأسوأ، أن ثقافة السلامة ما زالت غائبة عن الخطاب العام، في ظل تغليب الربح العقاري على أرواح السكان.
نقص معدات
فرق الدفاع المدني تعاني من النقص في عدد العاملين، وقِدم المعدات، وقلة التدريب. وفي مدن كاملة، مثل الديوانية وميسان، لا تمتلك فرق الإنقاذ سوى سلالم ميكانيكية محدودة لا تتجاوز 3 طوابق، في وقت ترتفع فيه الأبنية إلى 10 طوابق وأكثر. العديد من الأبنية في بغداد والبصرة وكربلاء شيّدت خلال الأعوام الأخيرة من دون إشراف هندسي فعلي، معظمها يفتقر إلى أنظمة رش أو إنذار، وتُمنح تراخيصها عبر وساطات أو مقابل أموال.
محاسبة مؤجلة
في كل حادث، هناك ضحايا، لكن نادرًا ما تُعلَن نتائج التحقيق، أو يُحاسب مقصّر. تُغلق الملفات تحت عنوان (القدر)، وتستمر الحياة، وتُعاد مشاهد الحريق مرةً بعد مرة، بلا إنذار ولا استعداد. ما يُخيف أكثر من النيران، هو هذا التطبيع مع الكارثة. في بلد يفترض أن يتعلّم من مآسيه، صارت الكارثة حدثًا عابرًا، والضحايا مجرد أرقام، والمباني قنابل موقوتة.
الكوت، والموصل، والناصرية، وبغداد.. المدن تتغير، والحرائق تبقى.