علي السومري - رسوم : علاء كاظم /
لا يمكن أن يُذكر الشعر الحر دون أن يكون اسمه موجودًا كأحد أعمدته. شاعر تمرّد على العمود، وأسس مع معاصريه (السياب والبياتي والملائكة)، تلك القفزة التي تحدت القصيدة العمودية وأنتجت -فيما بعد- قصيدة النثر الحديثة. بُلند الحيدري، المولود في بغداد عام 1926، الشاعر الطليعي، الذي اعتقل بعد انقلاب شباط عام 1963، غُيّب عن المشهد الثقافي بقرار سياسي، ورُفع اسمه من مناهج التربية والتعليم في زمن الدكتاتورية، بسبب مواقفه منها، وأيضًا لقوميته الكردية، بالرغم من قوة حضوره الثقافي والشعري آنذاك. آمن بالشعر كقوة قادرة على التغيير والتصدي للقضايا الكبرى، كالقهر والاستلاب وغربة الإنسان الروحية والجسدية، واستطاع، بقصائده الواقعية، التعبير عن محَن الإنسان العراقي وما واجهه من ظلم طوال عقود الخراب والدم. اهتم بالمسرح والموسيقى والتشكيل، ما انعكس على قصيدته، شكلًا وإيقاعًا ومعنى. أصدر مجاميع شعرية عدة، من بينها: (خفقة الطين)، و(أغاني المدينة الميتة)، و(خطوات في الغربة)، و(رحلة الحروف الصفر)، و(جئتم مع الفجر)، و(أغاني الحارس المتعَب)، و(حوار عبر الأبعاد الثلاثة)، و(أبواب إلى البيت الضيق)، إضافة إلى كتاب (زمن لكل الأزمنة). في مقطع من قصيدة (هذا أنا)، يرسم (الحيدري) بعضًا من سيرة حياته المضطربة: " هذا/ أنا / ـ ملقى ـ هناك حقيبتان / وخطى تجوس على رصيف لا يعود إلى مكان / من ألف ميناء أتيت/ ولألف ميناء أُصار / وبناظري ألف انتظار / لا.. ما انتهيت / لا.. ما انتهيت / فلم تزل / حبلى كرومك يا طريق.. ولم تزل / عطشى الدنان / أنا أخاف / أخاف أن تصحو لياليّ الصموتات / الحِزان / فإذا الحياة كما تقول لنا الحياة: / يد تلوّح في رصيف لا يعود إلى مكان." (الحيدري)، الشاعر المنسي، لم تنصفه المؤسسات الرسمية طوال حياته، لكن كُرّم بشهادات مجايليه، ومنهم (السياب) الذي قال عنه: "قصائده الرائعة أكثر واقعية من مئات القصائد التي يريد منا المفهوم السطحي للواقعية اعتبارها واقعية." في حين وصفه نزار قباني بالملاك: "بلند الحيدري لن يتكرر، لأن الملائكة لا يتكررون." وبعد عقود قضاها في منفاه، رحل بُلند الحيدري إلى مثواه الأخير، في لندن عام 1996، وها نحن نلوح له من وطنه، تلويحة محبة واحتفاء، بشاعر كان، ومازال، وسيبقى، رمزًا من رموز الشعرية العراقية.