100%
حسن الكعبي
خضع مفهوم الشر في الفن والأدب لتصورات نمطية تقليدية، وضعت الشر ضمن منظور إطلاقِيّ جرّد الشخصية الشريرة من أية إمكانية إنسانية.
برغم التحولات الفكرية في النظر إلى الشر من منظور النسبية، إلا أن سيادة التصور الإطلاقِيّ ظلت هي المُهيمِنة على النتاجات الأدبية والفنية. عن ذلك صدر فيلم (خليج الخوف) للمخرج مارتن سكورسيزي، تمثيل روبرت دينيرو، ونيك نولت.
يذكر أنه لم تصدر عن التصور النسبي لمفهوم الشر إلا أعمال نادرة، منها فيلم (يوم التدريب) للمخرج أنطوان فوكوا ومن تمثيل دينزل واشنطن.
أضرار نفسية
لا توجد مبررات لعقد المقارنة بين نجمين استثنائيين مثل واشنطن ودينيرو، فلكل منهما مدرسته في الأداء المتميز، لكن مبررات المقارنة تستند إلى تقديمهما لدور الشرير. فقد قدم دينيرو دور الشرير في واحد من أفلامه المهمة وهو (خليج الخوف - 1991)، الذي يُعد من أفلام الإثارة النفسية.
يحكي الفيلم قصة المجرم (ماكس كادي)، يؤدي دوره ر وبرت دينيرو، المتهم بارتكاب جرائم اغتصاب عدة، وفي إحدى المرات تقع جريمة اغتصاب لم يرتكبها، لكن أصابع الاتهام تتوجه إليه. ويقوم القاضي (نيك نولت) بإخفاء أدلة براءته. وبعد قضاء فترة في السجن، يطارد كادي القاضي ويتسبب له ولعائلته بأضرار نفسية لا تنتهي إلا بموت هذا المجرم على يد القاضي.
وعلى الرغم من أن دينيرو يمتلك مبررات الانتقام، إلا أن عبقريته في إظهار طاقة الشر إلى حد المبالغة جعلت الشخصية كابوسية يتمنى المشاهد موتها، مع حبه الشديد لنجمه الذي يؤدي هذه الشخصية.
يرجع ذلك إلى عبقرية دينيرو في التقمص الكامل للشخصية، ويعزو عالم النفس داون يونغ كابوسية الشخصيات في أعمال سكورسيزي إلى حالة الاضطراب النفسي عند سكورسيزي، وإلى تشاؤميته المسيطرة على أعماله. ولذلك، فإنها، وبرغم روعة أفلامه وجماليتها، تُعد من الأعمال المحرضة على العنف، كونها منطلقة من رؤيته إلى الشر من منظور إطلاقِيّ.
شر نسبي
لكن ذلك ما لم يحدث مع دينزل واشنطن في فيلم (يوم التدريب)، وهو من أفلام الأكشن الجيدة المصنوعة بحرفية عالية، لكنه لم يكن الوحيد في هذا المجال، بل إن هناك أفلاماً أفضل منه بكثير في هوليوود، مصنوعة بحرفية عالية، وتناولت الثيمة ذاتها التي تناولها الفيلم، ثيمة ضابط شرطة فاسد يؤدي دوره (واشنطن)، يستغل القانون ليتورط في عمليات مشبوهة مع مافيات تهريب المخدرات والأسلحة، وينتهي به المطاف مقتولاً على يد ضابط آخر نزيه يؤدي دوره (إيثان هوك)، في سياق خلق نوع من التوازن في معادلات القانون، وعدم تقديمه برؤية واحدة تُظهر الجانب المستغَل فيه أو المخترق منه.
فواشنطن كان يُهيمن على الشخصية ويوجهها توجيهات داخل الفيلم تُسهم في إظهار أنواع من التوازن الإنساني، الذي لا يسمح بدفع الشخصية إلى حدود الشر المطلق الذي اتجهت له شخصية دينيرو. وبالتالي، فإن هذه الهيمنة والتوجيه هي التي تكفلت بخلق مركب التعاطف الجماهيري مع شخصية واشنطن.
توجيه الشخصية
وربما أن هذه الخاصية التي تمتع بها واشنطن في توجيه الشخصية باتجاه قدرتها على انتزاع التعاطف مع الشخصيات التي لا يمكن أن تحظى بنوع من التعاطف، هي التي كانت وراء خيارات لجنة التحكيم في منح جائزة الأوسكار لأفضل دور رئيس لواشنطن، ليكون الممثل من أصل أفريقي الثاني بعد سيدني بواتييه الذي يحصل على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل رئيس.
وقد سبق لواشنطن الحصول على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل ثانٍ في فيلم (المجد - 1989) للمخرج (إدوارد زويك)، لكن هذا الفوز – أي فوزه في (يوم التدريب) – يُعد فوزاً استثنائياً في سياق ما استعرضناه حول شخصية واشنطن في الفيلم، التي لم تكن لتحظى بالجائزة لولا خاصية الموهبة الفذّة التي تمتع بها في إبعاد الشخصية عن الرؤية النمطية الإطلاقية، التي تعاين المثالي بصورته المطلقة، والشرير بنفس الصورة، ليُخضعها لرؤيته الخاصة التي تعمل على حفظ التوازن الإنساني حتى مع الشخصيات الشريرة، في سياق إحداث فارق كبير في معادلات فن الأداء السينمائي.