100%
فاضل محسن
بغداد ليست مدينة، بل متاهة تأكل الذاكرة، كيف تُرسم بألوان الرسّامين؟ إنها لا ترحم أحدًا، حتى النسيان لا يجد مكانًا بين جدرانها، لا تمنحك وجهًا، بل قناعًا تمشي به بين الحشود، شبحًا بين أشباح. هنا، على كل حي أن يختار، إما أن يحيا في عيونِ الآخرين، أو يموت وحيدًا في مرايا نفسه، وضياء الخزاعي ليسَ اسمًا، بل جرح مفتوح!
جمالية محسوبة
كيف تشعر وحدك في مدينة تلبس ثوب اللامبالاة، وتقلب وجوهها كصفحاتِ لوحة لم يعد لألوانها معنى؟ هنا، حتى الألم يصبح عملاً فنيًا، والوحدة إطارًا يعلق الجميع عليه صمتهم.
وجد الخزاعي في الرسم وسيلة للتعبير الحر، متفوقًا على الخط العربي، الذي شعر بأنه مقيد معه بحدود جمالية محسوبة. في دراسته للرسم في الفنون الجميلة، تحت إشراف أساتذة كبار، مثل فائق حسن وحافظ الدروبي وكاظم حيدر، الذين شجعوه على إتقان الأساسيات الأكاديمية قبل البحث عن أسلوبه الخاص، هو المتمرد على التقليد، رغم احترامه للدرس الأكاديمي، بحث عن حريته عبر تجارب خارج الإطار التقليدي، ما قاده إلى تبني لغة تشكيلية شخصية.
ذاكرة المدينة
تستمد أعمال الخزاعي الفنية عناصرها من ذاكرة المدينة وتراثها الشعبي، مع إعادة تشكيلها عبر رموز غير تقليدية، مثل عيون القطط في الوجوه. يُصنف أعماله ضمن المدرسة التجريدية التعبيرية، حيث يهيمن اللون والخط كمحورين أساسيين، مع تركيز على الإحساس العاطفي والحركة. ويجاهر بأن قلقه الداخلي يدفعه لكسر قواعد الموازنة والتناغم الأكاديمي، لصالح تعبير أكثر عفوية وتوترًا.
يؤمن بأن الفن العربي يجب أن ينبع بشكل طبيعي من البيئة والتراث، دون فرض هوية قسرية. يشجع على تذوق جميع الأساليب الفنية حتى تلك التي تتعارض مع قناعاته، معتبرًا أن التنوع شرط للإبداع. كما يعترف بإعجابه الشديد بأعماله، لكنه يترك تقييمها النهائي للمتلقي، مؤكدًا أن متعته الشخصية في الرسم هي ما يهمه بالأساس. ويرى الحركة التشكيلية العراقية، رغم انتشار الأعمال الرديئة، مازالت تحتفظ بقيمة عظيمة بفضل جهود فنانين مخلصين يواجهون تحديات الإبداع بصدق.
تشكيل التراث
رموزه تظهر كـلحظات لاهية نابعة من حساسية جمالية، لا كإسقاطات نفسية أو رسائل مبرمجة. يسري في عمله لون عاطفي بفضاء حر، يجعل عناصره داخل اللوحة تتحرك كـمحفزات بصرية. مزج بين الواقعي والخيالي، كوجوه حيواناته المختلفة، معتمدًا على الانزياح كأداة تعبيرية.
الخزاعي فنان يعيد تشكيل التراث عبر عدسة تجريدية تعبيرية، إذ يتحول القلق إلى طاقة إبداعية، والرمز إلى لعبة بصرية غير مكتملة الدلالة. أعماله ترفض التصنيف المباشر، وتظل مفتوحة على تأويلات المتلقي، في مساحة بين الذاكرة الجمعية والحرية الفردية.
تُعد الدراجة الهوائية رمزًا واضحًا ومهمًا في أعماله، حاملًا دلالات إنسانية تتراوح بين الحنين إلى الماضي. مبرهناً كيف يمكن للرمز البسيط أن يحمل طبقات متعددة من المعاني، وإن اختلفت باختلاف السياق والتجربة الشخصية للمتلقي، مثل طيرانها أو تحولها إلى كائن يُضفي طابعًا شعريًا وغامضًا، عاكسًا حالة التشرد التي عاشها الكثير من العراقيين.
لغة بصرية
مزجه للتجريدية التعبيرية في عمله الفني، أنتج أسلوبًا جمع بين تحرير الشكل من الواقع، وتعزيز المشاعر الذاتية، هذا (الميكس)، خلق لغة بصرية فريدة، إذ استخدم الألوان القوية وضربات الفرشاة المتحررة للتعبير عن عواطفه، مع تجريد عناصره المرئية إلى أشكال غير تمثيلية أو رمزية، كاستخدامه ألوانًا صارخة تعكس مشاعره الداخلية، وتبين حركة الفنان وانفعالاته.
جرّب التقنيات بحرية كبيرة، واستخدم الألوان كأداة سردية، وخرج بأعمال فنية متحررة من القيود، غارقًة في الشحنات الإنسانية، جاعلًا عمله الفني قويًّا، على المستويين الجمالي والعاطفي.
الفن، من وجهة نظر ضياء الخزاعي، نضج وخيبات، مردها اكتشافنا أن كل ما ورثناه من أساليب فنية ليس سوى تجارب ليست لنا، وأفكار فرضت علينا، وليس لمساعدتنا على تكسيرها! هكذا نظر الخزاعي لأعماله، منطلقًا من قدرتها، وقدرته، على التعبير عما يجول في مخيلته المكتنزة بالأفكار والصور.