100%
صفاء ذياب
منذ بداية القصيدة الحسينية في الشعر العربي بعد فاجعة كربلاء، كان الرثاء بشكله التقليدي سمة أساسية في هذه القصيدة، وصولًا إلى العصر العباسي، ليغير دعبل الخزاعي من شكلها الكلاسيكي إلى الربط بين الحزن والانتماء السياسي المعلن، متحديًا السلطة العباسية بجرأة لغوية، ليتبعه السيد حيدر الحلي في العصر العثماني، الذي حوّل الرثاء إلى وسيلة لبعث الوعي وتكريس مظلومية الإمام الحسين في الذاكرة الجمعية.
هذه القصيدة، مع مطلع القرن العشرين، بدأت بالتحوّل إلى ما يشبه الخطاب الاحتجاجي في وجه الطغيان السياسي والاجتماعي، إذ لم يعد الحسين مجرد رمز للحزن، بل أصبح رمزًا للمقاومة والكرامة. ويُعد الشاعر محمد مهدي الجواهري أحد أبرز الأصوات التي استلهمت الحسين رمزًا للثورة.
في حين ابتعدت هذه القصيدة في الشعر المعاصر عن النبرة الخطابية، لتذهب بعيدًا في عمق الرؤية التأويلية، إذ عمد شعراء الحداثة إلى تفكيك رمزية الحسين وإعادة تركيبها في سياقات ثقافية معاصرة. فـأدونيس، مثلًا، تعامل مع الحسين لا بوصفه شخصية دينية فقط، بل كرمز معرفي وثقافي، يُعاد إنتاجه في النصوص الشعرية بوصفه ثورة مفتوحة على الزمن، وربَّما كانت قصيدتاه (المسرح والمرايا) و(ضوء الشمعة) نموذجين واضحين لهذا التحوّل.
التغيير الجمالي هذا تواكب مع تحوّل في البنية الشعرية ذاتها، من القصيدة العمودية إلى قصيدة النثر والقصيدة الحرة، ما أتاح للشعراء هامشًا أوسع للرمز، والتأويل، والتكثيف. وقد تراجعت اللغة الرثائية المباشرة لصالح بنى شعرية أكثر انفتاحًا، تبحث عن الحسين في وجدان الإنسان المعاصر، لا في سردية الماضي فقط.
الآن، بعد قرون طويلة من عمر القصيدة الحسينية، كيف يمكن أن نوازن بين الموضوعة الثورية والإبداع الشعري في هذه النصوص؟
تقابلات مغايرة
يؤكد الشاعر عبد الزهرة زكي أنَّه: "في الشعر، وربَّما في عموم الأدب والفن، لا توجد وصفات ممكنة يكون معها (التوازن) آليةً شعرية قابلةً للتحقق. ولعلَّ العكس صحيح أيضًا، حين يكون الفصل ما بين (موضوعة ثورية) و(إبداع شعري) في نص شعري أمرًا يطيح بالموضوعة وبالإبداع على حدٍّ سواء".
موضحاً أنَّ: (الموضوعة الثورية)، وأية موضوعة أخرى يسعى الشعر لمقاربتها، لا تتعارض مسبقًا مع الطبيعة الإبداعية للنص، وذلك كلّما كان النص موضوعًا بإرادة وقدرة شعريتين.
ولهذا أيضًا، لا يمكننا إقامة مقاربة ما بين قصيدة الجواهري وقصيدة أدونيس، فكلٌّ منهما تسعى نحو بناء شعري محكوم بنمط تعبيرٍ شعريٍّ لا صلة له بمراد بناء الآخر ولا بنمطه.
لكن نستطيع هنا إقامة تقابلٍ آخرَ مختلفٍ إذا ما وضعنا قصيدة السياب عن إدانة إجرام (يزيد) إلى جنب قصيدة الجواهري في تمجيد الشهادة. القصيدتان كلتاهما تتقارب في هدفها الثوري بإدانة الجريمة وتمجيد البطولة والتضحية، لكنَّ السياب في قصيدته يختلف مع الجواهري إلى حدٍّ ليس بالقليل، لغويًا وتعبيريًا، وكان يريد بهذا مقاربة موضوعه الثوري انطلاقًا من رؤياه المتطلعة للحداثة، برغم أنَّه كتب قصيدته بتقنية العمود الشعري، بينما سعت قصيدة الجواهري، بموجب وعيه الشعري وبموجب ما هو متوقع منه، إلى استلهام لغته وتعبيراته من الموروث الشعري العربي، وربَّما بشكل أخص من شعر الناشئ الصغير، أحد أنشط الشعراء الملتزمين بالموالاة في عصره. نجح الشاعران، السياب والجواهري، في نسج قصيدتيهما واختلفا في مرجعيتيهما في البناء الشعري، ولا تعارض بذلك في بلوغ مرمييهما الشعريين.
منظومات قيمية
من جهته، يرى الناقد عبد علي حسن أنَّ واقعة الطف تعدُّ من أهم الوقائع والأحداث في التاريخ الإسلامي، إذ امتلكت جملة من المنظومات القيمية التي أفرزتها الوقائع والمواقف، لذا فقد استأثرت هذه المنظومات باهتمام الأدباء، شعراء كانوا أم مسرحيين، وسواهم من المبدعين، كلٌّ في المجال الأدبي والفني الذي اختصوا به. ويمكن وضع اليد على مستويين من التفاعل مع الواقعة من قبل الشعراء، ففي المستوى الأول تمظهرت بنية الرثاء والكشف عن قساوة ولا إنسانية التعامل مع الإمام الحسين عليه السلام وعائلته، فلم تخرج موجهات هذا المستوى إلى خارج الواقعة وحيثياتها، فقد ساد هذا المستوى بغية تكريس مظلومية الإمام في الذاكرة الجمعية. ولعل من أبرز من مثّل هذا المستوى الشاعر دعبل الخزاعي والسيد حيدر الحلي، وقد اقتفى أثرهما الكثير من الشعراء الذين كشفوا عن معاناة الإمام وأصحابه وأهل بيته. أما المستوىٰ الثاني فقد استلهم عبره الشعراء المعاصرون المنظومات القيمية للواقعة، وبضمنها الموقف الجريء والثابت للإمام الحسين لمعالجة مشكلات الواقع الاجتماسياسي عبر استنهاض الهمم والدفع باتجاه الوقوف بوجه عوامل الظلم والإضطهاد، عبر التذكير بموقف الإمام من السلطة الأموية الجائرة، وتقويض فواعل وجودها اللاشرعي، لذا فإنَّ هذا المستوى قد انطلق من الواقعة إلى الواقع من دون البقاء في منطقة الرثاء، وتجدر الإشارة إلى أنَّ حيثيات التفاعل مع المنظومات القيمية للواقعة قد تباينت ارتباطًا بصيرورة المجتمع وطبيعة المشكلات التي يعاني منها، ومن الممكن تأشير ذلك من خلال ما طرحه الجواهري مثلًا، وما طرحه أدونيس، وغيرهما، تبعًا لخصوصية المشكلات التي يعاني منها الفرد والمجتمع.
إعادة إنتاج المعنى
ويشير الناقد أمجد نجم الزيدي، إلى أنَّ القصائد المعاصرة التي تناولت رمزية الإمام الحسين (عليه السلام) تُظهر تحوّلًا نوعيًا في بنية التناول الشعري، إذ لم تعد تكتب ضمن إطار النبرة الثورية العالية والمباشرة التي شكّلت سمةً بارزةً للقصائد الكلاسيكية وما بعدها، بل أخذت هذه النصوص تنزاح تدريجيًا نحو أفقٍ جمالي مغاير، يُراهن على التجريب والتكثيف الرمزي، وعلى اللغة، بوصفها مجالًا لإعادة إنتاج المعنى، لا تثبيته، إذ تراجعت- تقريبًا- النغمة الخطابية لصالح بنى شعرية أكثر انفتاحًا، تُعيد بناء هذه الرمزية خارج إطارها التقليدي، الذي كرسته القصائد الكلاسيكية، ليصبح مساحة تأويلية متحرّكة.
يقودنا هذا التحوّل إلى مساءلة العلاقة بين الثورية والاحتجاج، اللذين كانا سمة القصائد الكلاسيكية من جهة، والإبداع المنحاز إلى الشعر وضروبه من جهة أخرى، وكيف يمكن للشاعر أن يُبقي الحسين (عليه السلام) أيقونة احتجاج ورفض من دون أن يختزله في شعار عابر؟ وكيف يمكن للنص أن يحافظ على طاقته الجمالية من دون أن يتنصل من مسؤوليته الأخلاقية؟ يتحقق ربَّما هذا التوازن المنشود، حين يُعاد توظيف الرمز بوصفه منظومة دلالية قابلة للتأويل، لا نصًا ماضويًا مستنسخًا.
الثورة تنبعث، حين تُعيد القصيدة النظر في رمزية البطولة، لا عبر تمجيدها، بوصفها فعلًا تاريخيًا، بل كقيمة حية تتجدد باستمرار، فالبطولة ليست سردية مغلقة، بل مفتوحة للتأويل، حين تمنح حياة جديدة، لا تستنزفها، بل تحرّرها من الصيغة الجاهزة، هكذا لا تُكرر الثورة نفسها، بل تُعيد ابتكار معناها، وتبقى القصيدة حية، لأن رمزها لا يشيخ، بل يواصل تحوله عبر الزمن.