100%
ريا محمود
حين يُقال (تموز) في العراق، لا يُفهم فقط على أنه الشهر السابع من السنة الميلادية، بل يُستحضر معنى أعمق، هو قصة فتى الآلهة، إله الخصب والموت والقيامة، الذي عرفته معابد سومر وبابل، واسمه (دموزي)، الذي حملهُ السوريون إلى بلاد الشام باسم (أدونيس)، وورثه العراقيون، لاوعيًا، في لغة الحنين والعزاء والمطر. فمن هو تمّوز في جذوره الأولى؟ ولماذا بقي اسمه حيًّا في مفردات العراقيين حتى اليوم؟
أساطير سومرية
في الأساطير السومرية، (دموزي) هو إله الرعاة، العاشق الأبدي للإلهة (إنانا)، إلهة الحب والحرب والخصب. وتبدأ المأساة حين تقرر إنانا النزول إلى العالم السفلي، فتُقتل هناك، ويهتز الكون. ولكي تعود، يُطلب منها أن تختار بديلًا يموت بدلًا عنها. فتختار دموزي، الذي لم يبدُ حزينًا على غيابها.
هكذا يُسحب دموزي إلى العالم السفلي، وهناك تبدأ طقوس العويل والبكاء. وتلحق به أخته (كشتن-أنا) لفترة، ليعود إلى الحياة نصف سنة، ويموت في النصف الآخر. إنها أول قصة (موت وقيامة) في التاريخ البشري المدوَّن.
دموع أنبتت الزرع
في الفكر السومري والبابلي، لا يموت دموزي تمامًا، بل يتناوب على الحياة والموت مع دورات الطبيعة. فحين ينزل إلى العالم السفلي تموت الأرض، وتجف السنابل، وتهجع الطيور. وحين يعود، ينبت الزرع وتزهر الحياة. وطقوس (البكاء على تموز) كانت تُقام في منتصف الصيف، تحديدًا في الشهر الذي حمل اسمه لاحقًا: تمّوز. كتب المؤرخ هيرودوت: "إن نساء بابل كنّ يبكين تموز في معابد آلهته". وفي النصوص الآشورية، وُجدت طقوس (اللطم والندب) مصحوبة بالأغاني والتراتيل التي تُشبه ما تقوم به نساء جنوب العراق اليوم في عاشوراء.
شهر النار والحنين
عبر الزمن، تحوّل تمّوز، من اسمٍ لإله إلى اسمٍ لشهر، لكنه لم يفقد نكهته الرمزية. فتموز في العراق يعني ذروة الحرّ، وقد اقترنت فيه الانقلابات والثورات، من 14 تموز 1958 إلى مجازر وحروب ومعارك طاحنة. وغالبًا ما يتحدث العراقيون عن (لعنة تموز) أو (حرقة تموز)، وكأنهم يستعيدون، لا وعيًا، الأسطورة القديمة: تموز يُذبح في قلب الصيف.
ولعل اللافت أن العراقيين، برغم اعتمادهم التقويم الميلادي، لم يتركوا أسماء شهورهم السريانية-البابلية. فتمّوز، وآب، وأيلول… ما تزال تُستخدم حتى اليوم، وكأنها حفريات لغوية حيّة تروي قصة حضارة لم تنطفئ.
تموز في الشعر
تموز لم يكن مجرد إله خصب، بل صار رمزًا للحب الضائع والخسارة المتكررة. فالشاعر السومري كتب عن إنانا وهي تبكيه، كما بكت العراقيات أبناءهن في الحروب. وفي القرن العشرين، استعادت فدوى طوقان (الفلسطينية) هذا الرمز حين كتبت:
"عشقناه تموز!
عشقناه تموز ينفض تل الرماد ويمنح ليلاتنا
شمسه الذهبية
أخبئ ما يثقل النفس، شجرة حزني على ضفة الحلم تنمو وتكبر
يطاردني الظل، آه… لماذا
لماذا يفتح في ظهر تموز جرح ويلمع خنجر؟!"
فتموز الذي كان رمزًا للولادة والحب والربيع، صار في القصيدة شاهدًا على الخيانة، وعلى الجرح الذي لا يندمل. إنه الحب حين يتحول إلى فقد، والنور الذي يُطعن قبل أن يكتمل.
ماذا تبقى من تموز؟
تمّوز اليوم ليس فقط شهرًا في التقويم، بل زمنٌ في الذاكرة، ومفردة في الحزن العراقي. من بكاء النساء في معابد الوركاء، إلى نواح الأمهات في مدن الجنوب، من تمّوز الأسطورة إلى تمّوز السياسة والدم، يبقى الاسم حاملًا لحكاية شعبٍ يرفض النسيان، ويبكي رموزه بصوت الأرض.