100%
عبد المنعم الأعسم
في غرناطة الإسبانية، مسقط رأسه، هناك شارع يحمل اسمه: ابن طفيل، أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن طفيل القيسي، المفكر، القاضي، الفلكي، الطبيب، الفيلسوف، الشاعر، صاحب المؤلَف الشهير الذي اخترق به الأسوار وخلب العقول وأحدث جدلًا وضجة في كل مكان، ونعني به سٍفره الشهير وسرديته العجيبة (حي بن يقظان)، وقيل فيه إنه "فرد ذو عدة أفراد"، فيما كتب ابن طفيل نفسه في خاتمة هذه السردية: "إن الرياضة الروحية توصل إلى المعرفة الحقيقية."
في ذلك الشارع يحتشد مراكشيون، عادة، لمشاهدة لوحات من وحي القصة، كرسالة من الألغاز والأحداث والوقائع والتأملات، عن طفل رضيع ألقي به في جزيرة خالية من الناس، فأشفقت عليه ظبية فقدت ولدها، وصارت ترضع الطفل وتتعهده، حتى يفع وتعلم أصوات الحيوانات وقلدها في المنحى والسلوك، وكان هذا قاعدة لرحلاته وتأملاته في الفلك والخليقة والعلاقات بين البشر، وفي نظم الطبيعة وتناقضاتها، حيث انتهى إلى قنوات الإقامة في المعتقدات وما يربط بين أحكامها.
أما أشهر نسخ (حي بن يقظان) المخطوطة، فهي نسخة أكسفورد، وتعود إلى نحو ستة قرون، ونسخة المتحف البريطاني، ونسخة دار الكتب المصرية في القاهرة، ونسخة بخط العالم الدمشقي الشيخ محمود الطنطاوي الأزهري، منذ أكثر من مائة عام، ونسخة مخطوطة قديمة افترض (غوتييه) وجودها في مكتبات خاصة بالشرق.
وفي عام 1671م، نُشرت (حي بن يقظان) في إنجلترا مترجمة إلى اللغة الإنجليزية بتكليف من جامعة أكسفورد، وكان رائد هذه المبادرة البروفيسور المتخصص في تاريخ الشرق الإسلامي، إدوار بوكك، الذي وضع مقدمة أيضًا بعنوان ذي دلالة: "كيف يستطيع العقل البشري أن يرتفع من أوطأ درجة في التأمل إلى أعلى درجة في المعرفة." وقد طبعت الترجمة الثانية عام 1700م، فيما كانت قد صدرت ترجمتان إنجليزيتان جديدتان عامي 1674 و 1686م، لكل من (ج. كيس) و(ج. ايشويل)، شاءت الأولى أن تضع على غلاف الكتاب هذه الكلمات: "قصة الفلسفة الشرقية تبين حكمة بعض أناس الشرق.. تلك الحكمة العميقة التي توصل إليها حي بن يقظان في أشياء طبيعية وإلهية، على حد سواء، بدون أي اختلاط بالناس."
وبين عامي 1900 - 1934م، صدرت ترجمتان إسبانيتان للقصة، في مسقط رأسه، إسبانيا، بقلم (بونس بويفوس) و(غونساليس بالينسيا)، وأعيدت طباعة الترجمة الأخيرة عام 1940م. وتأخر اهتمام الفرنسيين بمؤلف ابن طفيل حتى عام 1900م، حين صدرت الترجمة الشهيرة لـ (غوتييه) في كتاب واحد مع النص العربي، وأعيدت طبعتها في بيروت عام 1936م، وفي الجزائر عام 1969م. وكتب على صدر الكتاب لآخر هذه الطبعات: "ابن طفيل، الفيلسوف المتعلم بنفسه." كما ترجمت لأول مرة إلى اللغة الروسية في بيتروجراد عام 1920م، من قبل (كوزمين)، وصدرت عن (سلسلة الأدب العالمي) السوفياتية، التي كان يشرف عليها الأديب الروسي المعروف (مكسيم غوركي)، وأعيدت طباعة هذه الترجمة ثلاث مرات، لكن نقدًا للرواية باسم (أوكلي)، جاء فيه أن حي بن يقظان ارتكب "أخطاء فلسفية" في الجمع غير الموفق بين الآرسطوطاليسية والإسلام.
لقد ابتدأ ابن طفيل، سرديته في الحديث عن جزيرة عظيمة يملكها رجلٌ شديد الأنَفة والغيرة، وكانت له أخت ذات جمال وحسن باهر، منعها من الزواج، اذ لم يجد لها كفؤًا، وكان له قريب يسمى (يقظان) فتزوجها سراً، ثم انها حملت منه ووضعت طفلًا، فلما خافت أن يفتضح أمرها وينكشف سرها، وضعت الطفل في تابوت وأحكمتْ زمّه، بعد أن روته من الرضاع، وخرجت به في أول الليل، في جملة من خدمها وثقاتها، إلى ساحل البحر.. ثم ودعته.. وكان ما كان.