100%
الناصرية / صفاء أنصاف
لم تكن مدينة قلعة سكر، الغافية على نهر الغرّاف في محافظة ذي قار، سوى ميناء لنقل البضائع بين مدينتي الكوت والناصرية، فهي تقع في منتصف المسافة بينهما، حتى خُطّط لها كمدينة في العام 1863، كمركز يتفرع منه سوقان، ونهر يشقّها إلى نصفين متباينين: ريف ومدينة، لا يختلطان.
التخطيط للمدينة ووضع أسواقها جعل سكّانها يحافظون على شكلها الأولي، حتى بعد التحوّلات التي طرأت عليها، بانهيار الدولة العثمانية، ودخول البريطانيين، وتأسيس الدولة العراقية، وانهيار الملكية، وتأسيس الجمهورية.
كلّ صاحب مهنة أراد المحافظة على مكان (دكّانه) وشكله لأكثر من مائة عام، غير أن حادثة الحريق الكبير أجبرت أصحاب هذه المهن على إعادة النظر في كل شيء.
الحريق الكبير
يأخذ السوق القديم الجانب الأيسر من المدينة عرضًا بالكامل، يمتد من الحديقة، التي تعدّ مركز المدينة، وينتهي بنهر الغراف، ويتكئ على جانبه الأيمن المسجد الكبير المخصّص لصلاة الجمعة.
تتراصف المحال، بعضها مع بعض، كصفّ من المساجين بملابسهم الرثَّة، فلم يُجدّد بناء أي محل منذ تأسيس السوق قبل قرن ونصف القرن من الزمان، محل مقابل محل، من دون أيّة فسحة للتهوية، مع أن السماء لا تطلّ على السوق إلاّ عبر حافتيه: بدايته أو نهايته، إذ سُقف بألواح من الألمنيوم على طوله، خشية المطر الذي قد يُغرق المحال.
في العام 1980 اندلع حريق كبير في السوق، تمامًا عند الساعة الثانية عشرة ليلًا، حين صرخ شاب يدعى علي، كان بيته يقع في ظهر السوق تمامًا، باندلاع الحريق، عندها هب سكّان شارع الجمعية، وشارع الكرد، لإطفائه، إلا أن الأمر تجاوز السيطرة، فسارع الناس إلى جلب الماء حتى نفد ما لديهم، فتراكضوا يغرفون من ماء الساقية الآسن للسيطرة على اللهب الذي أخذ بالتهام كل ما في طريقه... احترق السوق! واختفت البضائع التي تكفي المدينة لأشهر، وبقي الناس يخمدون الحريق حتى اندلع الفجر، فانكشفت عندها الفاجعة.
بعد قرن على بنائه، جُدد السوق، فلا يوجد محل إلا وجبت إعادة بنائه، بعض التجار حوَلوا أعمالهم لأنهم كانوا بحاجة إلى حريق لكي يستطيعوا التجرؤ على تغيير تجارتهم إلى عمل أكثر حداثة.
الغراف... نهر الحزن الأبدي
كان السوق الكبير يتوسّط المدينة- تقريبًا- وتخرج من فمه حديقة دائرية، يقابلها على الجانب الآخر مباشرة سوق صغير متخصّص ببيع الخضراوات، يتفرع منه سوق صغير جدًا لباعة اللحوم والـ (باجات)، وفي نهايته سوق أصغر، من الصعب تسميته بالسوق، عبارة عن تجمّع عربات عدّة لبيع السمك الحي، الذي كان الصيادون يصطادونه من نهر الغراف، الذي يشق قلعة سكر إلى نصفين مختلفين في كل شيء.
على الجانب الأكبر تقع المدينة بكل ترفها (السابق) ونضارتها، في حين نجد على الجانب الآخر الريف بكل ما فيه من بساتين وحظائر الماشية. يربط بين جزئي المدينة جسر صغير يتألف من قطع حديدية مربوط بعضها ببعض، وتتكئ على (دوبات)، غالبًا ما يرميها التيّار بعيدًا، فينكسر ظهر الجسر، وتتوقف عندها وظيفته الوحيدة (العبور). عندها يهلهل أصحاب الزوارق الصغيرة، إذ يبدأ عملهم بشغف وجهد كبيرين، وتبدأ عندها أيضًا طوابير الريفيين بالعبور إلى المدينة، ومن ثمّ عودتهم بعد انتهاء ما جاؤوا من أجله.
في نهاية الستينيات، بدأ السباق الحقيقي بين ناحية الفجر، وهي مدينة صغيرة تقع شمالي مدينة قلعة سكر، وبين سكّان القلعة، بعدما أنشئ لهم جسرًا حديديًا لا يستطيع الزمن، مهما مرَّ، أن يكسر ظهره، منذ ذلك اليوم وشباب الفجر يتباهون على شباب القلعة بجسرهم الذي تمرُّ من عليه الشاحنات ولا يحني ظهره للتيّار.
قلب المدينة
على خط واحد مع الحديقتين، توجد حديقة دائرية أيضًا شمالي الحديقة الوسطية، الخارجة من فم السوق، وهي أكبر حدائق المدينة، حيث الورود تلتف حول ورود من نوع آخر، وهي تتشكّل بمجملها على أطواق من الورود الحمر والصفر والبنفسجية والوردية.
على جانبي الحديقة، يمتد فرعان إلى منطقتين مختلفتين تمامًا بعضهما عن بعض، يؤدّي الفرع الأيمن إلى حيِّ المعلمين، وهو الحي المعروف بالبيوت الجميلة والحديثة، وبساكنيه الذين أغلبهم من المعلمين والموظفين. أمَّا الفرع الآخر فيؤدي في نهايته إلى الشط، في حين يكتسي جانبه الأيمن بمدرستين من أقدم المدارس في المدينة، الأولى مدرسة الخنساء الابتدائية للبنات، والثانية مدرسة المنهل الابتدائية للبنين.
يحيط المدينة من جانبها الأيسر نهر الغراف، الذي يمتد على طولها بتقوّسات وتعرّجات، حتى تحسب أنه يفتح فمه في مناطق ويغلقه في أخرى، في الجنوب يلتفّ حول البساتين، وفي الشمال يثمل مع النادي الليلي... أمَّا النادي الثاني، فيقع في الفرع المجاور للسوق الصغير في وسط المدينة، وكان يعرف بـ (نادي الموظفين)، حُكي لنا أنه ذات ليلة، في بداية الثمانينيات، خرج ثلاثة مخمورين من النادي (بعدما ألغوا الحديقة ونصبوا مكانها صورة كبيرة للقائد المبجّل) وبدأوا بعد الثانية فجرًا يطوفون حول الصورة وهم يسخرون منها، عندها هجم عليهم رجال من قسم الشرطة القريب وأخذوهم إلى حيث لا يعلم أحد حتى هذه اللحظة.