100%
حميد قاسم
في المجتمع الريفي يجري إعلاء قيمة العمل المنتج، وفق حساب الجهد والزمن، فيعدون زارع الشلب، الذي يحرث ويزرع ويسقي، ثم يحصد ويذرّي وينتظر موسمًا كاملًا لإنتاج القمح أو الرز، أعلى قيمة من زارع الخضراوات، لأنهم يعدون القمح والشعير والرز أعلى مقامًا من الخضراوات والطماطم، فمنها يصنع الخبز، هذه تزرع وتنمو بلا جهد ومراعاة، وتلك تحتاج متابعة وعناية. وهنا نعرف احترامهم لقيمة العمل. لذا كان الخبزُ الطعامَ الأساس والمقدس في حياة الإنسان وميثولوجياه منذ القدم، يعني هذا أنها اساسية، وحتى مقدسة كقربان، بعد القربان الحيواني، قربان الدم الذي تُولع به الآلهة (هنا عودة لقربانَي قايين وهابيل وصراع الفلاح والراعي)، وهنا يلفت نظرنا تقييم المجتمع البدوي للعمل، فالراعي مقدّم على الفلاح حتى من الرب، ويعد ارتباط المزارع بالأرض وثباته فيها، وانحناءته عليها، ميوعةً عاطفية، لذا هو - الراعي البدوي- حر، جوال، يسعى بقطيعه حيث الكلأ والماء، فيما كان الاستقرار والكف عن التجوال والتمتع بمتع الحياة والعمل الدؤوب هو ما أسّس القرى التي كانت مقدمة لنشوء المدن في أرض ما بين النهرين ومصر والهند والصين، في بادئ الأمر، ومن هنا كذلك كانت فكرة تحالف المدن وتوسعها ونشوء فكرة الدولة وأنظمة الحكم.
وفق المنطق الريفي، يعد البيع والشراء والصيد (من أجل التكسب) عملًا أقل قيمة، بل بلا قيمة، لأنه لا يحتاج وقتًا أو صبرًا أو جهدًا حتى، لذا يمتنع أهل الهور عن صيد ما هو اكثر من حاجتهم، ويسمون من يفعلون ذلك (بربرة)، ومفردها بَرْبِري، ويحتقرون من يصيد بالشبكة التي تلم عددًا كبيرًا من الأسماك، على أساس أن الصيد بالفالة يستدعي مهارة وبراعة، وجهدًا عضليًا أكبر، ولا يستهدف سوى سمكة أو بضع سمكات لأجل وجبة غذاء يومية، فهم لا يصيدون أكثر من حاجتهم، ولا يبيعون السمك، ولا يرضون بالصيد الجماعي الذي يستهدف رزقهم اليومي.. أما احتقار الحاكة، فأظنه بسبب اضطرارهم إلى القعود في البيت ومجالسة النساء والأطفال وعدم ارتياد الدواوين، أي مجالس (الرجال)..
وهم يعدون التاجر مجرد شخص متطفل بين المنتج والمستهلك ما دام يستربح ويعتاش من هذا العمل بلا جهد عضلي (في الهور يكون التاجر ملزمًا برفع راية فوق منزله ودكانه على (چباشته) ليستدل عليه الناس ويميزوه عن سواه، من باب الازدراء والتهوين من شأن العاملين بهذه المهن، فهل ثمة إشارة في هذا تذكر بإلزام بعض البيوت برفع الرايات في مجتمع مكة قبل الإسلام، مثلاً) ..!؟
بدورهم، يحتقر الفلاحون أهل الهور لأن عملهم لا يتعدى تربية الجاموس وحلبِه وصيد السمك والطيور...! أعتقد انه تقديس بدائي للعمل ومراتبه.
الفلاحون يزدرون زرّاع الخضرة (الحساوية) ومربي الجاموس (المعدان) وهـؤلاء بدورهم يزدرون التجار والعطارين وتجار السمك (البربرة)، وكل هؤلاء يزدرون أهل المدن لأنهم لا يحرثون ولا يرعون ولا (يدرخون) أسماء أسلافهم ولا يتلقبون بجدهم الأعلى (جذر العشيرة) ثم يقبضون الرواتب من الحكومة، ويتلقبون بمهنهم او محلاتهم ومدنهم، وهكذا...