عبد المنعم الأعسم /
أول كذبة مارسها "خاتم الشعراء" غيلان بن عقبة بن مسعود المُعرّف بـ"ذي الرمة" ما زعم أنه لا يعرف الكتابة، "وكان يخفي ذلك دفعًا للاتهام بالتردد على المدن." بحسب راوية شعره "عيسى بن عمر". والتردد هذا عند قبيلة الشاعر، العرب البدو، عيبٌ. لكن شعره كان زاخرًا بالكذب (المصفّط) عن حيوات لا يرويها جاهل عن الكتابة والاطلاع على المدونات، وبخاصة تلك الحيوانات التي برع في توليف أغرب المنظورات عنها. وفي مرة طلب ذو الرمة من مدوّن شعرِه أن يرفع حرفًا عن متن بيت شعر له، فأثار استغراب المدوّن: "فقلت له أتكتب؟ فقال بيده على فيه: اكتمْ، فإنه عندنا عيب." وكان يشبّه عين الناقة بحرف الميم قائلًا: "كأن عينها منها وقد ضمرت / وأحثها السير في بعض الأضا ميم" الأديب أبو عبيد الله البليغ كان يقول "افتتح الشعر بامرئ القيس وختم بذي الرمة." أما الجاحظ ابو عثمان، فقد رصد بصيرة غيلان الشعرية ورسمها على أحسن صورة، ليس في شهادته القاطعة حول معرفة الشاعر للحروف وإجادة كتابتها وقراءتها، بل وفي براعته في (تصفيط) الصور المبالغ فيها عن الحيوان بأناقة حضرية آسرة: "كان غيلان الصغير يرعى الأغنام والإبل مع إخوته وأقرانه.. يروح ويغدو تحت سماء الدهناء الصافية ووديانها الخصبة، التي تعج بالأشجار المختلفة والنهايات المتعددة والأعشاب الكثيرة والأزهار الجميلة، وما فيها من إبل وحُمر وأغنام وظباء." وحيوانات ذي الرمة، شأن خواطره الشعرية الأخرى، حصائل معرفة واسعة تتجاوز وعي البادية آنذاك، فقد كان كثير التردد على الحواضر، بما يعتبر، بمقاييس بداوة ذلك الوقت، معابة كبيرة ونزعة للتحلل. وقد رد أبو الفرج طراوة شعره ورحابته ضمن دلالات لفظية لم تألفها جغرافية المفردة البدوية إلى طول غيابه عن البادية: "إن ذا الرمة قد أكل البقل والمملوخ في حوانيت البقالين." وهي إشارة لن تتبرأ من اللوم، أو الحسد المبطن للشاعر. وليس من شك أن الناقة، وقد استهل ذو الرمة تجربة الانتقال من على ظهرها إلى الضفة الاخرى، كانت ضيفة دائمة على قصائد الكثير ممن سبقه من شعراء العرب الأوائل، مثل طرفة بن العبد، وأوس بن حجر، وكعب بن أبي زهير، والشماخ، والراعي النميري، حيث توارت الحبيبة خلف سنامها ومشيتها المتهادية في العديد من زوايا المعالجة لديهم، أو متون البعير في استطراداتهم. وقد شبّه الناقة بسفينة الصحراء، وأحلّها في موقع يكاد يضاهي، موقع معشوقته في فؤاده.. حيث جاء ذكر الناقة عنده في إحدى وخمسين قصيدة مقابل خمس وخمسين قصيدة لـ "مي" الحبيبة. يروي ذو الرمة، في واحدة من أكاذيبه الشعرية (المصفطة) أنه ارتحل على تلك الناقة التي هدها طول السفر، وغارت عيناها لشدة الهزال، ولكنها تبقى – ليس كالأخريات – تتمسك بالجَلَد في مسيرها، فهي غزيرة الشعر، يهفهف تحت فمها "كأنه أهداب الطنافس" وهي، إذا ما ظهر الليل من بين المرتفعات "النشّز" تُحرّك أبصارها المستوفزة حركة النساء "الفوارك" اللواتي يبغضن رجالهن ويتطلعن إلى سواهم : "إذا الليل عن نشزٍ تجلّى رمَينَه / بأمثالِ أبصارِ النساءِ الفوارك". ولد غيلان بن عقبة بن مسعود بن حارثة، الذي عرف باسم "ذي الرمة"، عام 696 ميلادية "87هـ"، ومات في الأربعين من عمره، وكان في السابعة من عمره، أو حول ذلك، لما أصابه، حسب الأصفهاني، فزع في الليل، فجاءت أمه الى أحد قراء بدو البادية لنيل "معاذة" تعلقها على صدره، فكان لها ما طلبتْ، حيث كتب الرجل شيئًا ما على "جلد حيوان غليظ" وقد بقيت رقعة الحيوان معلقة على جنب الصبي المسحور، حتى اشتد عوده وبلغ مبلغ الشباب وقال الشعر بتصفيط عجيب.. والأعجب هنا ما ورد في قواميس اللغة العربية عن كلمة "سفْط" بمعنى إصلاح، أو سخاء.