100%
سجى السعدي تصوير / خضير العتابي
لطالما كانت المقاهي في العراق أكثر من مجرد أماكن لتناول الشاي أو القهوة. فقد كانت، وما زالت، مساحات حيوية للحوار الثقافي وتبادل الأفكار، حيث تتجمع فيها العقول المفكرة من الأدباء والفنانين والسياسيين. من (“الكهوة) القديمة، التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالتراث البغدادي، إلى المقاهي الثقافية الحديثة التي أصبحت منصات للنقاشات الفكرية والأمسيات الأدبية، ظل دور هذه الأماكن محوريًّا في تطور الحركة الثقافية العراقية.
كيف أسهمت المقاهي في تشكيل الوعي الثقافي في العراق؟ وما مدى تأثيرها على الحراك الأدبي والفني في العصر الحالي؟
القاص والروائي حميد المختار أشار في حديثه لـ "الشبكة العراقية" إلى أن المقاهي في ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن الماضي كانت تجمع شخصيات سياسية بارزة، بالإضافة إلى مؤسسي الأحزاب والموظفين، مثل مقهى حسن عجمي في شارع الرشيد، والحيدرخانة، والبرازيلية، والبرلمان، والبيروتي، التي هي من بين أشهر مقاهي بغداد المعروفة. وذكر من بين رواد تلك المقاهي الجواهري وأسماء مهمة أخرى، كما كان من المعتاد أن تضم المقاهي القصخونية (الحكواتية). وأضاف قائلًا: "كانت (الكهوة) نموذجًا شعبيًا بحتًا، يعود إلى المحلات البغدادية القديمة، حيث كان يرتادها العمال والمراجعون لدواوين الدولة، بل وحتى (الشقاوات) في بغداد حتى السبعينيات."
منتديات أدبية
أضاف المختار: "المقاهي كانت في الماضي مراكز للنقاش بين السياسيين والمثقفين، إذ كانت تُعد أحد أماكن ملتقيات الأحزاب السياسية، بل كانت أشبه بمنتدى أدبي رصين، حيث يتجمع الناس لقراءة الصحف، والتداول في الأخبار بين الحاضرين. كانت تلك المقاهي تحتضن كذلك وصلات غنائية، مثل أغاني المنولوجست عزيز علي، الذي كان محرضًا على الحكام والسياسيين العراقيين، وقد لاقت منولوجاته صدىً واسعًا في تلك الفترة." وأوضح أن المقاهي كانت هي المقر الحقيقي للأحزاب والحركات الأدبية، ومن خلالها انطلقت أصوات المعارضة العراقية من خلال القصائد والقصص، وحتى النكات الساخرة.
فعاليات فنية
على الرغم من أن المقاهي ظلّت مكانًا للترفيه والتسلية، إلا أنها تحولت، بفعل الظروف الحالية، إلى فضاءات ثقافية خصبة، ولاسيما مع غياب أماكن أخرى تتسع لإقامة فعاليات أدبية وفنية في بغداد. ومن هنا، أصبحت المقاهي بديلًا أنيقًا ومقنعًا، ولا يمكننا اعتبارها مجرد امتداد للمقاهي القديمة، إذ إن تلك الأخيرة عاشت ظروفًا سياسية واجتماعية مغايرة تمامًا.
تراث شعبي
تحاول بعض المقاهي اليوم إضافة لمسات من التراث الشعبي في ديكوراتها، بما يسهم في الحفاظ على الموروث الثقافي، وقد لاقى هذا التوجه رواجًا كبيرًا وانتشارًا، إذ تمثل المقاهي الثقافية بديلًا للمراكز الثقافية والمنتديات التقليدية.
يقول المختار : "أعتقد أنها ستستمر في ازدهارها وتطورها لتصبح نمطًا ثقافيًا راسخًا في جميع أنحاء العراق، وليس في بغداد وحدها. كما يمكن للدولة أن تعنى بتطوير المقاهي القديمة، مثل مقهى الشابندر، الذي تعرض لتفجير شارع المتنبي، كونه يشكل جزءًا من الذاكرة الحضارية للعراق. اليوم، تعمل المقاهي على استكمال دور المقاهي القديمة، ولكن بشكل معاصر، ما يخلق نقلة كبيرة تربط بين الماضي بالحاضر."
فضاء حر
الباحث في التراث عادل العرداوي يقول: "ستستمر ظاهرة المقاهي التراثية في احتضان المثقفين بمختلف توجهاتهم، إذ توفر لهم مكانًا مريحًا للتداول في الأحاديث والمناقشات الثقافية، بعيدًا عن الرقابة والسيطرة. وتبقى المقاهي الثقافية التي يرتادها المثقفون مساحة واسعة تتيح لهم التعبير عن حريتهم الثقافية وتبادل الأفكار والآراء في أجواء تتسم بالحرية والانفتاح. وبالرغم من أنها لا تلغي دور الجمعيات الثقافية الرسمية والمنظمات الثقافية الأخرى، فإنها تمثل دورًا مكملًا وساندًا لهذه الأنشطة الثقافية، سواء في العراق أو في الدول التي تشهد ظاهرة المقاهي الثقافية، مثل مصر وسوريا ولبنان وتركيا."
أفكار جديدة
في أحد المقاهي الثقافية في قلب بغداد، يجلس محمد سليم، شاب عراقي في الثامنة والعشرين من عمره، محاطًا بأصدقائه الذين يناقشون موضوعًا أدبيًا حيويًا. بالنسبة لمحمد، هذه الأماكن ليست مجرد مقاهٍ تقليدية، بل هي مختبرات ثقافية حية تتيح له فرصة التعرف على أفكار جديدة، وتبادل الآراء، واكتشاف إبداعات الشباب الآخرين.
يشير محمد إلى أن : "المقاهي الثقافية أصبحت جزءًا من حياتنا اليومية. هي مكان نلتقي فيه لتبادل الأفكار، ومناقشة الأدب، والسياسة، والفن. هي أكثر من مجرد مكان لتناول القهوة؛ إنها مساحة حرة للمناقشات الجادة والإبداع."
أصبحت المقاهي الثقافية في العراق بديلًا حيويًا للمراكز الثقافية الرسمية التي قد تكون بعيدة عن اهتمامات الشباب. هذه الأماكن توفر أجواء غير رسمية تجعل الشباب يشعرون بالراحة لتبادل آرائهم، ومشاركة تجاربهم الثقافية.
نقل الثقافة
"تتميز المقاهي الثقافية بكونها نقطة التقاء بين مختلف الاتجاهات الفكرية، حيث يجد الشاب نفسه في بيئة تسمح له بالتفاعل مع الآخرين بحرية تامة." يضيف محمد: "المقاهي الثقافية تفتح لنا الأفق للتعرف على أعمال جديدة في الأدب والفن، وتساعد في نقل الثقافة إلى الشارع. الشباب الذين لا يزورون المكتبات أو المعارض الفنية قد يأتون إلى هذه الأماكن لاكتشاف ثقافة جديدة."
تعتبر هذه المقاهي قوة دافعة لحركة ثقافية جديدة في العراق، حيث يمكن للجميع، بغض النظر عن خلفياتهم، المشاركة في الأنشطة الثقافية، من ورش عمل إلى محاضرات مفتوحة، ولقاءات مع كتّاب وفنانين.
تفاعل المبدعين
يعتبر محمد أن إحدى أهم ميزات المقاهي الثقافية هي أنها توفر فرصًا للتفاعل المباشر مع المبدعين والفنانين. يقول: "في هذه المقاهي يمكننا لقاء الكتّاب والفنانين المحليين والدوليين، ومناقشة أعمالهم، وهذا يفتح أمامنا أبوابًا جديدة من الإلهام."
هذا النوع من التفاعل يتيح للشباب فرصة تعلم الكثير من خلال التجارب المباشرة، ويحفزهم على تطوير مهاراتهم واهتماماتهم الفنية.
تحديات وصعوبات
بالرغم من الفوائد العديدة التي تقدمها المقاهي الثقافية، فإنها لا تخلو من التحديات، إذ يواجه أصحاب هذه المقاهي صعوبة في تأمين التمويل الكافي لتنظيم الأنشطة، وأحيانًا يتعرضون لضغوط اجتماعية قد تفرض حدودًا على بعض النقاشات.
يعلق محمد على ذلك قائلاً: "في بعض الأحيان، نواجه تحديات في تنظيم فعاليات مفتوحة، خاصة عندما تتعلق المواضيع بالقضايا السياسية أو الاجتماعية الحساسة. لكن بالرغم من ذلك، لا تزال لدينا مساحة للابتكار والنقاش."
المقاهي الثقافية في العراق أصبحت اليوم منصات حيوية للأفكار والإبداع. هي ليست مجرد أماكن لتناول القهوة، بل مواقع تفاعلية تفتح أبوابًا لثقافة جديدة، وتسهم في بناء مجتمع أكثر انفتاحًا ووعيًا، حيث يصبح الشباب العراقي جزءًا من حركة ثقافية متجددة ومزدهرة تسعى إلى تشكيل مستقبل مشرق يعكس تطلعاتهم الثقافية والفنية.