100%
حسين محمّد عجيل
"سافرتُ من كركوكَ بالسَّيّارة المُعتادةِ نحوَ السُّليمانيّة، كان الطّريقُ في غايةٍ من الأمن، كيف لا وقد كان المُسافِرُ قبل سنةٍ لا يخطو في هذا الطّريق خُطوةً إلّا برِفقةِ المُدرَّعات، والآن تَرى السّيّاراتِ روائحَ غادياتٍ طُوْل النَّهار، كأنَّ الطّريقَ طريقُ كربلاء- بغداد، بلا أدنى فَرْقٍ، لولا مناظرُ الجبالِ الشّامخةِ والأوديةِ الخضراءِ الجميلةِ، تُضاهي جبالَ وأوديةَ سُويسرة الشّهيرة."
هذا ما كتبه المُلّا عَبُّود الكرخيُّ (1861- 1946م)، الشّاعرُ الشّعبيُّ الأشهرُ في تاريخ العراق الحديث، والصّحفيُّ الرّائدُ، في مُستهلِّ رحلتِه إلى لُواء (= مُحافظة) السُّليمانيّة، المنشورة مُشاهداتُها يوم الثّلاثاء 18 تشرين الأوَّل 1927م في صَدْر الصّفحة الأُولى من جريدته (الكرخ) بعددها 39 من سنتها الأُولى، وهي جريدة "أدبيّة تهذيبيّة أخلاقيّة أُسبوعيّة مُصوَّرة" كما جاء في تَرْوِيْسَتِها، وصاحب امتيازها المُلّا عَبُّود نفسُه، ومُحرِّرها ابن أخيه: عبد الأمير النّاهض.
هواء المدينة
ومن طريفِ ما سجّله المُلّا عَبُّود في رحلته إشارتُه إلى ريحٍ عاتيةٍ هبَّتْ على المدينة واستمرّت أيّامًا، فألهمته قصيدةً كان شَطْرُ بيتِها الأوّلِ بالفُصحى وعَجْزُ البيتِ كذلك لولا لفظةٌ واحدةٌ تبدو عامِّيّةً، وهو ما يُؤكِّدُ قُدرتَه على النَّظْمِ الفصيح لو شاء. وعلى عادته في المُقارنةِ، ضاهى هذه الرّيحَ بنظيرٍ لها كان شهده في مدينة الدِّيوانيّة. ويقول في عُنوانٍ ثانويٍّ سمّاه (هامش): "تهبُّ في السُّليمانيّة ريحٌ صَرْصَرٌ خاصّةٌ بها، يُسمّيها الأكرادُ (رشه با)، وهي تُشبه أُختَها في الدّيوانيّة واسمها في التُّركي (قره بل)، وتُلازمُ هذه الرِّيحُ مجراها من يومين إلى أُسبوعٍ كاملٍ، فصادف هُبُوبها وُجُودي هُناك، ولم تُرِحْنا أربعةَ أيّامٍ مُتوالية، فألهمتني قصيدةً سوف ننشرُها، ومطلعُها:
في السُّليمانيةِ ذقتُ العَطَبا والأذيّة من هواء الرَّشَه با".
تاجر وصحفيّ رَّحال
كان الكرخيُّ يُجيد اللُّغةَ الكُرديّةَ كما التُّركيّةَ والفارسيّةَ، فقد بدأ حياتَه العمليّةَ في تجارة والدِه بالجُلُود والحُبُوب والإِبل مُتّنقِّلًا مع قوافل التُّجّار بين البُلدان العربيّة والشّرقيّة، وسهّلت له تلك المعرفةُ تجارتَه قديمًا، كما سهّلت لاحِقًا جولاتِه الصّحفيّةَ، تعريفًا لقُرّائه بأحوال البلاد وأوضاع سُكّانِها، وبحثًا عن مُراسلينَ وكُتّاب ومصادرَ تُميِّزُ جريدتَه عن غيرها، وترويجًا لها وكسبَ اشتراكات جديدةٍ وإعلاناتٍ.
لم يذكر المُلّا عَبُّود ما إذا كان يرتدي في رحلته هذه زيَّه التّقليديَّ المعروفَ في ما وصلنا من صُوره، أم كان يرتدي الزّيَّ الكُرْديَّ، وأُرجِّحُ أنّه، بسبب خلفيّته التّجاريّة وكثرة أسفاره، كان يرتدي الأخيرَ ليُسهّل عليه الاختلاط بالسُّكان والانسجام معهم وتحقيق أهداف الرّحلة.
كان أكثر ما توقّف عنده بالسُّليمانيّة، هو حالةُ الأمن فيها، الّتي أَفردَ لها ولدور الجيش والشُّرطة باستتبابِها مُعظم مُشاهداتِه، وهو يُشيرُ في مُستهلِّها إلى الأزمة النّاتجةِ عن انتفاضة الشّيخ محمود الحفيد أكثر من مرّة في لُواء السُّليمانيّةِ ومُحيطهِ، الّتي أدّت إلى احتجاجات واضطرابات واسعة، وتدخّل الجيش، مُشيدًا بحُسن سياسة مُتصرِّفِ (= مُحافِظ) اللّواء وجُهُودِه الّتي أقنعت الشّيخَ الحفيدَ بإنهاء أزمة ذلك العام سلميًّا، عادًّا أنّ استتباب الأمن والرّاحة إنّما جاء بهمّة الحُكومة "السّاهرة على راحة الأهلين بعين الشَّفَقة والرَّأفة، سهرَ الأُمِّ الحنونِ على طفلِها الرّضيع"، على حدِّ تشبيهِه، مُبيّنًا أنّ الرّحلة بالسّيّارة بين المدينتين استغرقت خمس ساعات، ومُشيدًا بالمُهندس محمّد علي بك الّذي قال إنّه عمَّرَ هذا الطّريقَ وأنشأ سراي الحُكومة بالسُّليمانيّة وثلاث سرايات في نواحيها، فضلًا عن إنشاء مدرسةٍ للإناث و13 مخفرًا للشُّرطة.
الملا يتحدث الألمانيّة
كنتُ أظنُّ أنّ حماسة المُلّا عَبُّود لمقارنة جمال الطّبيعة بالسُّليمانيّة بسُويسرا، إنّما جاء عن سماعٍ أو نَقْلٍ عن غيره، حتّى قرأتُ في بعض مصادر سيرته أنّه زار برلينَ أثناء الحرب العالميّة الأُولى وأنّه تعلّم اللُّغةَ الألمانيّةَ، بعد أن عُهِدتْ إلى شركة النّقل الّتي كان يُديرُ مكتبَها في الكرخ مُهمّات تموين جهاتٍ ألمانيّةٍ هندسيّةٍ وعسكريّةٍ بالأرزاق والخُيُول أكثر من مرّةٍ، وكانت ألمانيا آنذاك حليفةً للدّولة العُثمانيّة، ولا شكَّ أنّه مرَّ بتلك الأودية والجبال المُتاخمة لألمانيا، الّتي وصف جمالَها.
وعن تعدُّد اللُّغات في شماليِّ العراق، كتب الكرخيُّ تحت هذا العُنوان الثّانويّ (مُجتمع اللُّغات)، الآتي: "رأيتُ في منطقة الشّمال عدّةَ لُغاتٍ مُستعملةٍ في دوائر الحُكومة، منها العربيّة والكُرديّة والتُّركيّة والإنكليزيّة، ولكن لاحظتُ أنّ مأمور كركوك (الأرمنيّ) يكتبُ خطاباتِه بالإفرنسيّة. كما إنّي كُنتُ جالسًا في إحدى الدّوائر في أربيل فوردتْ حوالةٌ باللُّغة الهنديّة، فهل هذا ممّا يليقُ باستقلال البلاد ووحدتِها؟"
في مديح الكرْد
واختتمَ المُلّا عَبُّود رحلتَه بتسجيلِ مشاعره وتقديره العالي لأبناء وطنه الكُرْد في السُّليمانيّةَ، وخُصوصًا لمن خالطهم في الرّحلة، بعدما غمروه به من لُطفٍ وحفاوةٍ وكرمٍ، وعزَّزَ ذلك من ثقته بمُستقبل العراق الّذي كان يتوقُ للاستقلال، وبالرّابطة الجامعة بين عربِه وكُرْدِه، فكتب يقول: "إنّي لا أُغالي إذا ما امتدحتُ أبناء الوطن الأكراد الكرام، فلقد وجدتُ من الحفاوة والإكرام وإقراء الضَّيْفِ وبِشْرِ الوجهِ في أشراف السُّليمانيّة ما لم أكن أحلمُ به في بلدةٍ يتهافتون على جريدة (الكرخ) وهي تصدرُ بلسانٍ غيرِ لسانِهم، ولقد وجدتُ فيهم من الحُبِّ والإخلاص إلى إخوانِهم العربِ ما وثَّقَ اعتقادي بأنّ الاستقلالَ العراقيَّ هو العُروةُ الوثقى الّتي لا انفصامَ لها، وها أنا أتركُ هذ اللُّواءَ الجميلَ وكُلِّي لسان شُكْرٍ".
محبّو الطرَب الأجنبيّ
إذا كان الكرخيُّ قد افتتح أوّل عدد في جريدته (الكرخ)، الصّادر يوم الاثنين 10 كانون الثّاني 1927، بافتتاحيّته الّتي كانت قصيدةً شعبيّةً بعُنوان "مبدأ الكرخ"، في سابقةٍ لا أظنّها حصلت في تاريخ صحافتنا، فإنّه أَلْحَقَ بمُشاهداته في السُّليمانيّة قصيدةً طويلةً جعلها بمثابةِ ما بعد الخِتام لرحلته، مهّدَ لها بإبداء استغرابِه في جولته الشّماليّة من ظاهرة الرّاقصات والمُطربات الأجنبيّات في كُردستان، وطَرَبِ بعضِ الشّبابِ هُناك على غنائهنَّ من دُون أن يفهموا كلماتِ الأغاني، مُشيرًا إلى مُلاحظتِهِ الأمرَ نفسَه في فنادق العاصمةِ بغدادَ أيضًا، بقولِه السّاخرِ إنَّ الشّبابَ هُنا وهُناك "يَرجُّونَ الفضاءَ بالتّصفيق العجاج على سماعِ نشيدٍ رُوْسيٍّ أو أغنيةٍ إفرنسيّةٍ، كأنَّ أحدهم ترعرعَ في (لينين غراد) والثّاني في (بوردو)!" ثُمّ يقول: "لذا نَظَمْتُ هذه القصيدةَ عِبرةً لكُلِّ عراقيٍّ يطربُ على لسانِ غيره، ويُهرولُ على حِسِّ الطَّبل."