100%
حميد قاسم
يقول كازنتزاكي:
"كانت أمّي قدّيسـةً. كيف استطاعتْ أن تُحِـسَّ إلى جانبها شهيقَ الأسـد وتنهداتِهِ خمسينَ عامًا دون أن يتحطّـمَ قلبُها؟"
تقرير إلى غريكو
نحن مدينون لأمهاتنا بغالبية ما اكتسبناه في الطفولة من مهارات الحياة اليومية، مهما كبرنا وبلغنا من العمر. الأم هي أول امرأة في حياة الطفل الذي سيصبح مراهقًا، وشابًا، ورجلًا، وكهلًا، وشيخًا. وربما يظل الرجل يبحث في وجوه النساء عن ملامح أمه، أو لهجتها، أو عاداتها، فما إن يجد امرأة بملامح وعادات وطبائع قريبة لها، حتى يقع في حبها مأخوذًا بمثاله الأول عن النساء.. الأم، وأعني أمّه.
أمهاتنا هن من نكتسب منهن مهارات حياتنا الأولى ونحن نحبو، ثم نمشي بقدمين تترنحان، حتى يستقيم عودنا ونغادر باب الغرفة والحوش والبيت إلى الشارع، فالمدرسة ثم الجامعة أو سوق العمل.. نحن محكومون بما تلقيناه منهن: كيف تلبس ثيابك، كيف تزرر قميصك، وتلبس بنطلونك، وكيف تمشط شعرك، وأخيرًا كيف تلبس جوربيك بدون أن تضعهما في قدميك بالمقلوب، وتلبس حذاءك ثم تربط القيطان، قبل أن تضع في يدك مصروفك اليوم وأنت تغادر البيت إلى المدرسة.
أتذكر هذا كلما حان وقت الاستحمام؛ حين كانت أمهاتنا يغسلن رؤوسنا وشعرَنا الكثيف بالصابون (الرقي)، قبل اكتشاف الشامبو، مصحوبًا بعبارة زاجرة بقدر ما هي رحيمة حانية (غمّض عيونك)، لحظتها كنت أعصر جفنيَّ وأطبقهما بقوة لأغمض عينيّ خشية أن يحرقهما الصابون..
أتذكر الصفعات (الكفخات) المتوالية كلما تململت، أو احتججت، أو فتحت عيني وبكيت من حرقة الصابون اللاذعة، ليستمر مشهد الدعك بـ (الليفة) الخشنة على الوجه، فالأذنين والرقبة والكتفين، وتحت الإبطين والساعدين والكفّين، فالصدر والظهر والبطن، وصولًا إلى دعك القدمين بحجر جيري أسود مكتظ بالثقوب الصغيرة، أو بقطعة طابوق مجليّة ناعمة، وأخيرًا الشطف بالماء بـ (طاسة الفافون)، أو النحاس، مصحوبة بالبسملة ثلاث مرات لضمان أن الجسد أمسى طاهرًا بلا نجاسة، ولا ذنوب..! وهنا تختلط فكرة النظافة اليومية بالمفهوم الديني الشعبي للاستحمام.
مهارات بسيطة، لكنها ظلت تلازمنا حتى زمننا هذا، لربما اختلفت من بيت إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى، ولم تتغير مع تطور الحمّام العراقي، أو البغدادي، من (التختة) الخشبية والصِّفرية و(البريمز) الخارجي تحتها، وصولًا إلى عالم الدوش والشَور والبانيو.. وحتى الجاكوزي.
"غمض عيونك ودنّج راسك"، مازلت أسمع صداها بصوت أمي واهيًا، كلما دخلت الحمام، ومع البخار يتردد وقع صفعاتها الرحيمة وهي تردد: "ولك والله موتتني!!"