100%
زياد العاني
في زمن تزداد فيه وتيرة العولمة، وتتسارع أشكال التواصل بين الشعوب والثقافات، تتنامى الأسئلة حول مصير الهوية الثقافية المحلية، خصوصاً في البلدان التي تمتلك إرثاً حضارياً عميقاً وذاكرة جمعية مثقلة بالتحديات. العراق، بوصفه أحد أهم منابع الحضارة الإنسانية، يشكّل نموذجاً خاصاً في هذا السياق. فالمثقف العراقي، الذي تشكّل وعيه وسط تضاريس معقّدة من الحروب والتحولات والخراب، لا يواجه سؤال المثاقفة من موقع رفاهية فكرية، بل من موقع صراع وجودي بين الانتماء إلى ذاكرة ثقافية عريقة، والانفتاح على فضاءات عالمية تتغير بسرعة غير مسبوقة.
في هذا الإطار، وتحت مظلة مشروع ثقافي يُعنى برصد تصورات المثقفين العراقيين حول العلاقة بين الثقافة المحلية والمشهد العالمي، طرحنا السؤال التالي: كيف يفهم المثقف العراقي اليوم مفهوم (المثاقفة) مع العالم، دون التفريط بالهوية الثقافية المحلية؟
جاءت الإجابات متنوعة في عمقها وزواياها، لكنها اتفقت جميعها على أهمية التوازن بين الأصالة والانفتاح. وفيما يلي آراء بعض من الكتّاب، أضاءت جوانب مختلفة من هذا السؤال.
الخوف من التهجين
يرى الباحث والأكاديمي د. سعد سلّوم أن المثاقفة مع العالم ليست تهديداً للهوية الثقافية، بل هي فرصة لتجديدها وترويجها بذكاء في السوق العالمية.
يقول: "ستكون هناك آثار حتمية على الثقافات والتقاليد المحلية، شئنا أم أبينا، لكنها لا تمثّل تهديداً بقدر ما تتيح إمكانيات للنمو، شرط أن نحسن تسويق ثقافتنا ببراعة. هناك مبالغة في الخوف من تآكل الهوية بفعل التأثيرات الثقافية الغربية. نعم، الأفلام والموسيقى والموضة تفرض سطوتها عالمياً، لكن هذا لا يمنعنا من صناعة سينما عراقية مميزة كما فعلت الهند أو إيران."
غير أن سلّوم يبدي قلقاً من سيطرة أنماط استهلاكية غربية، تمثّلها مطاعم الوجبات السريعة مثل (ماكدونالدز)، التي يرى أنها تسهم في إضعاف تقاليد الطهو المحلي، وتهدّد أحد أركان الهوية الثقافية، الطعام.
ويختم بالتحذير من تراجع اللغات الأصلية، مشيراً إلى أن أكثر من 40 % من لغات العالم مهددة بالاندثار، ومنها اللغة المندائية، التي يرى أنها تمثّل أحد الجذور الثقافية الرافدينية الأصيلة في العراق.
إثراء التجربة
أما الشاعر والباحث في أدب الرحلات باسم فرات، فيقدّم تجربة شخصية ثرية تستند إلى ثلاثين عاماً من الترحال والتفاعل مع ثقافات العالم. يقول: "المثاقفة، كما أفهمها، هي الانفتاح على الآخر لإثراء التجربة الجمالية والمعرفية، دون أن نفقد ذاتنا. كبار مثقفينا سبقونا إلى هذا الطريق، حين جمعوا بين لغة عربية راقية ووعي عميق بالتراث. وأنا سرت على خطاهم، فقرأت التراث وتفاعلت مع من سبقني، وسافرت، وتعلمت لغات عدة، من اليابانية إلى لغات جبال الأنديز والأمازون."
ويؤكّد فرات أنه، برغم اندماجه في مجتمعات متعددة، احتفظ بهويته ولهجته الموروثة، حتى وإن أصبحت لغة حياته اليومية لغة أخرى غير العربية.
ويختتم قائلاً: "عدم تفريطي بهويتي يعود إلى معرفتي بقوة اللغة العربية، وإدراكي أنني أنتمي إلى بلد وضع الأبجدية قبل الإسلام، وابتكر علوم النحو والصرف بعده."
زاوية فلسفية
من جانبه، يتناول الكاتب رياض الفرطوسي مفهوم المثاقفة من زاوية فلسفية، معتبراً إياها ممارسة واعية قائمة على الحوار والندية.
يقول: "المثقف العراقي، ابن حضارات وخراب، لا يرى المثاقفة كانسلاخ، بل كجسر ممتد من الذات إلى العالم. الهوية عنده ليست قيداً، بل مخيال خصب يثري التفاعل. وهو لا ينظر للثقافة الكونية كسقف مفروض، بل كفضاء للحوار، شرطه الندية لا التنازل، والانفتاح لا الذوبان."
ويشير الفرطوسي إلى أن المثاقفة في الوعي العراقي ليست تبعية لغوية أو فكرية، بل تمرين دائم على (الترجمة)، لا بمعناها اللغوي فحسب، بل ترجمة التجارب والمعاني والرؤى.
لو تمعّنا في الآراء جميعها لوجدنا بأنها تكشف عن مسارات مختلفة لفهم المثاقفة، لكنها تشترك في تأكيدها أن الانفتاح على العالم لا يعني بالضرورة خسارة الهوية، وأن المثقف العراقي قادر على أن يكون فاعلاً ومؤثراً، إذا ما وازن بين الجذور التي تغذيه، والأجنحة التي ترفعه.